في ما وراء صدام الحضارات: الفكر الإسلاميّ والغرب
جورج لورو
ترجمة محمّد الحاج سالم
صدرت هذه المقالة بالفرنسيّة في دوريّة “الواجب” (Le Devoir) الكنديّة بتاريخ 21 أكتوبر 2006، وصاحبها جورج لورو (Georges Leroux) هو أستاذ الفلسفة القديمة وتاريخ الأديان بقسم الفلسفة بجامعة الكيباك في كندا، وعضو أكاديميّة الآداب بالكيباك.
إنّ لفولتير الجاهل تماما باللّغة العربيّة، اليوم الكثير من التّلاميذ.
من يعرف اليوم عظمة المثل الأعلى الذي ألهم المعتزلة ؟
من يقرأ في البلدان النّاطقة بالفرنسيّة الكتاب المتميّز لفريد إسحاق حول القرآن؟
لم يكن صاموئيل هنتغتون يتوقّع حين قدّم أطروحته حول “صدام الحضارات” أنّها ستساهم في تعميم قراءة سياسيّة للنّزاع بين الإسلام والغرب، وأنّها سوف تخدم أولئك الذين يمكن أن يساهم التّبسيط الفظّ والمخلّ للفكر الإسلاميّ في تغذية حججهم.
ولقد تدعّم هذا التّعميم بفعل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إلاّ أنّ ما يتضمّنه من مبالغات مكشوفة لا يزال ينتظر التّفنيد، ذلك أنّ جدواه ما فتئ يتعاظم مع الأيّام في سياق تحقيريّ للفكر الإسلاميّ والعربيّ. فمن منّا لا يجد مصلحة في البرهنة على أنّ الإسلام كان ولا يزال يمثّل عبر العصور عقيدة موسومة برفض العقل، والدّعوة إلى التسلّط، والرّضى بالأوضاع الظّالمة، والعجز عن اتّخاذ موقف نقديّ تجاه النصّ القرآنيّ؟ أليست كلّ هذه النّعوت النّقيض الموضوعيّ لغربنا المُؤَمْثَل، ذاك المزج الثريّ بين الدّيمقراطيّة المساواتيّة والنّقد العقلانيّ ؟
لقد أنشأ الغرب خطابا مضلّلا حول الإسلام يعتبره غير جدير بالحداثة وعاجزا عن أن يكون ليبراليّا، وحكم عليه بأن يكون كذلك إلى أبد الآبدين. إلاّ أنّ مفهومي الحداثة واللّيبراليّة لا يمكنهما في الواقع توضيح مسألة تطوّر الفكر الإسلاميّ خلال الحقبة التي تشكّلت فيها المثل العليا للعقل والحريّة في الغرب.
انتقام
يكفي أن نعيد قراءة المادّة التي كتبها فولتير حول النّبيّ محمّد في الموسوعة (l’Encyclopédie) كي نفهم أنّ لأطروحة هنتغتون جذورا ضاربة في التّاريخ، وأنّ أوروبّا المسيحيّة التي أهينت بخسارتها بيزنطة ليست وحدها من اختار الانتقام لذلك عبر تحقير التّراث العربيّ، فها هي أوروبّا الحديثة أيضا تظهر عجزها الكامل إلاّ عن امتهان لاعقلانيّة المفكّرين المسلمين.
وكما يقول ريشار بولييه (Richard Bulliet)، وهو أحد أندر المؤرّخين المعارضين لما يطرحه هنتنغتون، في كتابه “الحضارة الإسلاميّة المسيحيّة” فإنّ “الحضارات السّاعية إلى المواجهة لا يمكنها البحث عن مستقبل مشترك” (La Civilisation islamo-chrétienne, Flammarion, 2006). وهكذا يبرّر الغرب لنفسه تجاهل تاريخ الفكر العربيّ والإسلاميّ والإغفاء التامّ عن كلّ ما مثّله ذلك الفكر منذ انبثاق الإسلام وإلى اليوم – رغم كلّ العوائق – من جهد عقلانيّ.
أزمنة ذهبيّة
هل يستند هذا الحكم على أساس متين؟ من الواضح أنّ الجواب هو النّفي. إنّ تاريخ الفكر الإسلاميّ ينقسم تقريبا إلى أربع حقب: حقبة التشكّل أي حقبة “الفلسفة” التي شهدت حركة ثريّة لاستيعاب العقلانيّة اليونانيّة وتأويلها؛ والحقبة الثّانية هي ما يسمّى العصر الذّهبيّ ممثّلا في قرن من الازدهار المتميّز على جميع الأصعدة، تليها حقبة الإمبراطوريّة العثمانيّة، وأخيرا حقبة سقوط الخلافة.
وعلى الرّغم من توافق معظم المزدرين للفكر الإسلاميّ على الاعتراف بعظمة الحقبتين الأوليَيْن، إلاّ أنّهم يبدون عاجزين عن دراستهما بمعزل عن الانحطاط المعاصر، وبذلك يغفلون عن أمرين. أمّا الأوّل فهو يتعلّق بأنّ ما عليه الفكر الغربيّ اليوم إنّما كان بفضل استيعابه التّراث العلميّ والعقليّ للإسلام، لكن، من يعرف اليوم عظمة المثل الأعلى الذي ألهم المعتزلة؟ هذا ما أعاد تأكيده في الآونة الأخيرة بعض العلماء الأكفاء من طراز بيتر أدامسون (Peter Adamson) المتخصّص في كتابات الفيلسوف العربيّ أبي إسحاق الكنديّ وديمتري غوتاس (Dimitri Gutas) الباحث الذي درس بالتّفصيل الثّقافة العربيّة اليونانيّة.
ولكن يجب علينا أيضا التّركيز على حقيقة أخرى، وهي أنّ انحطاط الفكر العربيّ الحديث وتوظيفه من قبل حركات سلطويّة مثل الوهّابيّة، ناجمان إلى حدّ كبير عن رفض الغرب استيعاب الإسلام ضمن إطار مفهومه عن الحضارة، وذلك على عكس اليهوديّة المضطهدة والمحاصرة طوال عدّة قرون، إذ أضحت – لأسباب سياسيّة في المقام الأوّل- جديرة بالاندراج في إطار العبارة الخلاصيّة “الحضارة اليهومسيحيّة”. وبالطّبع، فإنّ هذه الفكرة لم تكن ممكنة إلاّ بعد أن غدت اليهوديّة مجرّد شاهد غابر وغائب، أمّا الإسلام فلم يشفع له انتماؤه إلى الأديان الكتابيّة ولا سعيه الدّؤوب خلال مراحله التّاريخيّة الأولى نحو تعميق الصّلة بين الإيمان والعقل، لكي يحظى بهذا التّقارب، وتمّ تجميده جملة واحدة في وضعيّة الآخر الذي لا يمكن استيعابه.
إجراءات
لقد كانت لهذا الانسداد آثار لا تقلّ ضررا عن نظريّة صدام الحضارات، إذ هو يعزّزها، بل ويشلّ كلّ جهد كي نرى في الإسلام شيئا آخر غير رمز حقير للاّعقلانيّة، في حين أنّ تاريخ هذا الفكر – سواء فكّرنا في ابن سينا أو الفارابيّ أو ابن طفيل، وكثير غيرهم- هو أساس حداثتنا الغالية. لكنّ الأسوأ من ذلك أن يغطّي نشر الصّورة النّمطيّة التي تدعمها – ويا للأسف- الانحرافات الإسلامويّة على كلّ الجهود التي يبذلها الحداثيّون المسلمون.
لقد حاول عدد كبير من المفكّرين المسلمين منذ سقوط الخلافة ورغم الظّروف السّياسيّة الصّعبة بعد سنة 1918، وهي ظروف صنعناها بأيدينا، بعث العقلانيّة. وقد أظهر مالك شبل مؤخّرا في كتابه “الإسلام والعقل” (L’Islam et la raison, Perrin, Paris, 2005) أنّ هذا المشروع العقلانيّ لا يزال حيّا. أمّا إذا تحمّلنا عناء الاطّلاع على الصّورة التي يقدّمها راشد بن زين في كتابه “مفكرّو الإسلام الجدد” (Les Nouveaux Penseurs de l’islam, Albin Michel, 2004)، فإنّه لن يسع المرء إلاّ الإعجاب بجهود المفكّرين المعاصرين رغم ما يلاقونه من صعوبات.
لقد واصل هؤلاء المثّقفون حمل مشعل العقلانيّة الإسلاميّة التّراثيّة، لكنّهم قاموا أيضا بتحديث حقيقيّ للفكر. إنّنا لا نسمع منهم ما يكفي، وهذا ما يعترف به الجميع، لكن كيف نأمل منهم القضاء على الظّلاميّة الإسلامويّة إذا كنّا نصرف كلّ وقتنا في إظهار عجزهم، باسم قراءة زائفة أو مجتزأة لتاريخهم ؟
فقياسا على محمّد أركون، وهو باحث مدهش في اطّلاعه على الإنسانية العربيّة للقرون الأولى ومدافع عن إسلام متحرّر، ترى كم من مفكّر يبقى سجين الظلّ الذي حبسناه فيه؟ من يقرأ في البلدان النّاطقة بالفرنسيّة الكتاب المتميّز لفريد إسحاق حول القرآن (un seul livre traduit, Coran, mode d’emploi, Albin Michel, Paris,2004) ؟ ألا يتعلّق الأمر بحمل تحذيرات عبد الوهّاب المؤدّب في كتابه “مرض الإسلام” (La Maladie de l’islam, Seuil, Paris, 2002) محمل الجدّ على أن نأخذ بها فيما يخصّ حالتنا ؟ أليس من واجب جامعاتنا انتداب وتكوين مستعربين منفتحين على الحوار وقادرين على إبلاغنا هنا بما يتمّ من جهد نقديّ من قبل مثقّفين معزولين طالما تعرّضوا للاضطهاد على يد أنظمة متعصّبة حتّى نقوم بدعمهم ؟
إنّه لا يمكننا مزيد التملّص من مسؤوليّتنا تجاه التّطوّر المعاصر للفكر الإسلاميّ بتجاهله سواء في تاريخه العظيم أو في معاركه الرّاهنة، فرفضنا التّحاور معه تحجّجا بدوغمايّته حسب الذّريعة الفولتريّة لن تكون نتيجته سوى إعادة إنتاج الصّور النّمطيّة له ومساعدة من يجد مصلحته في ذلك.
موقع الآوان