الحرية، حالة نخبوية طارئة في الثقافة العربية
مها حسن
كانت الأمّ تسأل ابنتها وهما في المترو، وكنت أقف قربهما، إن كان العرض المسرحيّ الذي حضرته قد أعجبها، ولماّ أجابت الصغيرة بالموافقة، لم تكتف أمّها بإجابتها السطحية، بل راحت تسألها لتبرّر ردها، وتلحّ عليها بالأسئلة، بوجه مبتسم مشجّع على الجواب، لتشرح أسباب إعجابها بالعرض، وفيما إذا كان قد تطابق مع تصوّر الصغيرة له قبل المشاهدة، وبعدها، لتساعد ابنتها على التفكير، ومعرفة أسباب قبولها أو رفضها لفكرة ما أو غيرها.
كنت أتابع أحد الأفلام الكوميدية، عن حياة مدرّس يقرّر العمل فجأة في إحدى المدارس النائية عن العاصمة، واستغربت كيف كان الأستاذ يسخر من طالب عنده، إذ كلّما سأله عن سبب قبوله لفكرة ما أو رفضه لها، كان الطالب يجيب دوما ” لأنّ أبي قال … “، فما كان من الأستاذ إلا أن قال له، بعد عدّة استنادات من الطالب على رأي أبيه ” أنت ستكون أكبر أحمق لأنك لا تستعمل رأسك، بل تستعمل رأس أبيك فقط “. لو كان هذا المدرّس في بلادنا، لطُرد من العمل لأنه يشجّع الطلاب على التمرّد على السلطة الأبوية. بينما يعتبر، وفقا للعقلية الغربية، أنه يشجع الأطفال على التفكير والاستنتاج، لا التقليد والكسل.
منذ أن أجريت حواري مع السيد توفيق علاّل، مؤسّس ” جمعية بيان الحريات ” في فرنسا، وقد ترك رأيه في الحريات الفردية صدى مستمرّا في رأسي، وهو أنّ جميع الحركات السياسية والحزبية، لم تتبنّ فكرة حريّة الفرد. منذ ذلك الوقت وأنا أتلمّس حولي، مظاهر الحريات الفردية في عالمنا العربيّ، وفي ثقافتنا المعاصرة على الأخصّ.
لا أعرف إلى أيّ حدّ تتطابق فكرة الحرية مع الديمقراطية، وإلى أيّ حدّ تختلفان، ولكني أعرف أن ّالديمقراطية تكاد تكون مطلبا سياسيا، بينما الحرية، وفق الأجندة السياسية، لا تتعدّى فكرة التحرّر من الاستعمار سابقا، والحريات السياسية، في عهد الاستقلال. أي أنّ سقف المطالبة بالحرية، لا يتعدّى الحريات الجمعية، أو الأفكار العامة عن الحرّيات، كحرية التنظيمات السياسية، وحرية الاجتماع، والتظاهر… فـ ” للحرية الحمراء باب، بكل يد مضرّجة يُدقّ ” ـ وإذا عرف أحدكم لماذا هي حمراء فسأكون ممتنة بأن يشرح لي سبب كون الحرية حمراء ـ بينما انحصرت المطالبات الأعلى سقفا للحرية، بالمنظمات الفكرية، غير المسيَّسة، والبيانات التي أطلقتها الحركات الفنية، أو الفنانون الأفراد.
بل ثمّة قطيعة تكاد تكون بين الحرية كمفهوم وبينها كممارسة، في الشارع السياسيّ على الأخص، والأسوأ هنا، هو أن رجالات السياسة ذاتهم، والمنادون بالحريات، لا يمارسون هذه الحريات في حياتهم الشخصية، لا في اختياراتهم، ولا في سلوكهم مع عائلاتهم، فنرى أهمّ المنظرين للحقوق، يمارس قمعا في عائلته، هو الذي يتحدّث عن حقوق المرأة في المؤتمرات والندوات والمقاهي، وما أن يدخل المنزل، حتى يعامل زوجته أو ابنته أو حتى ابنه، كما كان والده يعامل أمه وأخواته، ويمارس التصرفات ذاتها التي مارسها، من قبل، السي سيّد، والده.
لنتصفّح برامج الفضائيات، والتي تهدر الكثير من الأموال، فهي إماّ تنادي بالخلاعة والسطحية والتفاهة، أو الانضباط المطلق والطاعة لله والعائلة والمجتمع.
وكذلك فإن ثقافتنا تنادي دوما بالامتثال بمن سبقوا، والخضوع وتقليد الكبار، ولا تؤمن بالتميّز والاختلاف، أو بالتجارب الجديدة.
نسمع العبارات التالية في الشارع العربي : حقوق إنسان، مساواة المرأة، حريات أحزاب، حرية صحافة، قوانين طوارئ ومن الجانب الآخر نسمع، طاعة الله، العبادة، الصوم، الشرف… ولكننا نادرا ما نسمع خطابات تتحدث عن حرية الاختيار، حرية الكتابة، حرية الاعتقاد، مع أنّ الأخيرة من بنود البيان العالمي لحقوق الإنسان .
إن ثقافتنا لا تشجّع فكرة الحريات الفردية، لما ترى فيها من خطر الخروج على الجماعة، والفكر الجماعي، وكذلك القوانين والأعراف الجماعية، لا تزال تتمتع بقدسية كبيرة، تكاد تكون أعلى وأهمّ مكانة من القوانين الوضعية.
تخاف ثقافتنا من المخالف، وأهمّ وصف قد يطلق على المخالف، هو وصف ” متمرّد “، أو ” مراهق “، الأول يرتبط قليلا بالفن، كما لو أن الفنان فقط هو المتمرّد، أو أنّ التمرد سمة لصيقة بالفنان، وفق العرف الاجتماعي، أما المراهقة، فهي سمة عمرية، سرعان ما يخرج منها صاحبها، ويعود للامتثال لقواعد الجماعة، أو يدخل في حظيرة القطيع.
فإن ألقينا نظرة سريعة على أمثالنا الشعبية، نجد أنها تشجّع على الخضوع، المحاباة، التقليد، لنأخذ مثلا ” حط راسك بين الروس، وقول يا قطاع الرؤوس “، أو ” اللي بيجرب المجرب، بيكون عقله مخرّب “. ثقافتنا لا تؤمن بحقّ النقد، بل بالمحاباة، والنفاق، ” أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على ابن الجيران ” بغض النظر فيما لو كان ابن الجيران على حقّ أكثر من ابن عمي، أو أنّ ابن عمي صاحب حقّ أكثر من أخي.
أكثرنا نُعتبر أبناء أوفياء للشعار الحزبيّ ” من ليس معنا، فهو ضدنا ” .
كأننا نخاف فعلا إن سمعنا رأيا مخالفا لرأينا. ولا بدّ من التنويه بين الفارق الكبير بين الاحترام والمحاباة، فإنّ انتقاد رأي الأب أو المعلم أو الشخص الأكبر في العائلة، لا يعني أبدا فقدان احترامه، ولكنّ فكرة النقد، وحرية التعبير، غير موجودة في تربيتنا وقواميسنا للعيش اليوميّ، بل هي مفردات، نستعملها في اللغة المدونة، الرسمية، في الندوات والمحاضرات… إلا أنها غير مؤهلة للممارسة اليومية، لأننا ببساطة لا نؤمن بالنقد، ولا بحرية الرأي، بل بالتقليد، واتباع خطى الأوّلين، إذ أننا حين نظهر أخطاء الغير، سوف يُظهر هذا الغير أخطاءئا، لذلك من الأفضل، الابتعاد عن النقد، حتى نظهر وكأننا لا نخطئ، فهل من أحد عاقل ” ينشر غسيله الوسخ ؟ “.
بل حتى في صداقاتنا، الصداقات عندنا هي التحالفات، فكلّ صديق يجب أن يؤازر صديقه بالرأي، و” يبصم ” على جميع أقواله. فأنت تحضر ندوة ما، أو لقاء مشتركا بين مجموعة مثقفين، فإن كان ثمّة صداقة تجمع بين الأطراف، فإنهم لا يختلفون كثيرا بالرأي أمام الآخر.
فأنت مثلا لا يمكنك أن تكون صديقا لـ س وع في الوقت ذاته، إن لم يكن س هذا متفقا مع ع ذاك، سوف تجد نفسك مجبرا على الاختيار، وسيقول لك أحدهما، إمّا أنا أو هو. لذلك فأنت لست حرا في صداقاتك حتى. إذ أنّ للأصدقاء شروطا عليك، أوّلها ” تغطية عيوب هذا الصديق “.
ثقافتنا لا تتحدّث عن الحرية، بل الخضوع. الخضوع للأكبر سنا، للأب، للأخ الأكبر، للعم، للجار، للأستاذ، لرئيس الحزب، …. والكل خارج النقد، عكس ما يقوله ديكارت “ما من شيء خارج النقد ” .
الحرية، حرية الرأي، حرية الاختيار، هي مفردات غير مفعّلة بعد في سلوكنا وتفكيرنا اليومي، لأنها مفردات حديثة، ويبدو أنها تحتاج إلى وقت طويل، للتفاعل فيه مع الأفكار القديمة، عن الخضوع والمحاباة والتملق. يبدو أننا نحتاج لجلسات تحليل ذاتية، يومية، ولأكثر من مرة في اليوم، لنستطيع غرس هذه الأفكار الجديدة، لتصبح جزءا حيويا من طريقة تفكيرنا، بحيث نستطيع انتقاد الأب، والأخ الأكبر، ورئيس الحزب، ورئيس القبيلة، والزوج، والصديق… دون أن يؤثر هذا على درجة الاحترام، أو الحبّ، أو الاثنين معا، الذين نكنّهما للشخص القابل للنقد، وأوّلهم، نحن أنفسنا، أن يكون كل مناّ قابلا للنقد، باحترام، وبحبّ. فهل هذا ممكن الحدوث ذات يوم؟