صفحات ثقافية

“حيث لا تسقط الأمطار” لأمجد ناصر: النسيج الأدبي المتين هل يفضي إلى السيرة الذاتية؟

null
في أول أعماله الروائية “حيث لا تسقط الأمطار” (دار الآداب)، يلتزم الشاعر أمجد ناصر السرد بلغة أدبية متينة، يسيطر فيها على مجرى الاحداث وتطور الشخصيات، أو قل تأرجحها بين زمنين، من دون أن يتخلى عن توهج هذه اللغة، أو يتنازل عن هيبة حضورها القوي، والمطعّم بالشعري، داخل العمل. تبدأ الرواية بمشهد بصري، كثيف، معتم، مشحون بالقلق، نكتشف في ما بعد ان ناصر استقدمه من مسار أحداث الشخصية الرئيسية. لا يضيّع الكاتب حرفا في التمهيد لعلامات المكان او الظرف السياسي أو الاجتماعي الخاص به، فهو لا يؤثر الكتابة الروائية إلا ليدخلك مباشرة منذ الصفحات الاولى في ابواب متصلة، تفتح على غرف صغيرة، وتغلق، سامحة لك بأن تلمّ نثارا من صورة حياة البطل هنا، وزوجته، وأصدقائه، ومكانه “الجديد” (المدينة حيث يعيش بعيدا عن وطنه). في مقابل العنف والتخريب الذي أصاب حياة البطل الحالي (أدهم)، نقلب الصفحات لنتعرف إلى بقايا من صنف آخر، لا تتعلق بالسابق على صعيد الطفولة والذاكرة والمحيط والمكان، بل كذلك تلقى روابط بصورة البطل الاولى (الخطاط يونس).
ثلاث ثنائيات تمثل أمامنا في هذا العمل. الاولى تتعلق بالشخصية الرئيسية التي تنقسم صورتين متطابقتين وغير متطابقتين في وقت واحد: ادهم ويونس. أما الثانية، فتتم عبر مكاشفة الكاتب لزمنين مختلفين ومتصلين (ماض وحاضر) ووضعهما أحدهما قبالة الآخر أحيانا، بل إيلاج أحدهما في لحم الآخر من خلال اللغة والسرد وموقع البطل الجديد والالتباسات التي تطرأ على ما يراه “الآن”. أما الثنائية الثالثة فخارجية، تقنية، جعل منها ناصر سبيلا حيويا وصعبا للتنقل بين قطبي ذاكرة فردية، وذلك عبر الاسلوب السردي الذي اتبعه، والذي من خلاله، عمل على سلخ البطل نفسه خارج النص، ووضعه في موقع المتكلم إلى ذاته، والمستعيد حياته، ككائن مهووس بتقشير حياته، وإعادة تذوقها من جديد، لكن بمرارة. لم يتبع الروائي أسلوب المكاشفة البسيكولوجية لشخصياته، فلم يجعل من مواطن لغته عيادة مثلا لمعاينة دواخل الفرد بل ظروفه عبر ربطه بمستجدات مشوقة وغير متوقعة، ومصائر لا تندرج إلا في بقاع الواقع أو الطازج من تاريخنا العربي العام. بهذا، فإن اللغة في العمل تشبه النسيج الذي يستوعب حبّات خرز بألوان مختلفة، تاركا بينها مساحات مترابطة بخيط او حدث. فمكان الشخصية الاول (الحامية)، برمزيته (وإسمه)، وموقعه في الصحراء، وممناعته للغزوات، ومن ثم الديكتاتورية المتنامية فيه، وبزوغ ثوار حالمين بتغيير نظام الحكم فيه، يشحذ المخيلة لبناء المقاربات والدلالات والاسقاطات على الصعيد السياسي والسوسيولوجي والانساني وحراك المثقفين. وهو مكان يتغير جذريا، بفعل الزمن والتطورات التكنولوجية، لتتسلم شركة مهام تطويره بما يتوافق والاستهلاك.
لا يستند ناصر إلى مكان موجود بالفعل، فالرواية عمل تخيُّلي، كما أحداثه وشخصياته، ولا نعرف إلى اي حد استند أمجد إلى تجربته الشخصية في هندسة روايته، لكن ما يبعث على الاهتمام، هو الاستلهامات التي تعيدنا شئنا أم أبينا إلى آخر أربعة عقود من خلال قراءة الرواية وليس العكس. بمعنى أن الكاتب لم يتكئ على الحدث العام، لتحويله عن مساره المفترض ومن ثم إنتقاء ما يلائمه، بل هو ذهب إلى افتراض رواية، أي بناء رواية مرتكزا على مخيلته، وتجربته الكتابية، الشعرية تحديدا، كما وبلا أدنى شك، بعض ملامح حياته الشخصية. لذا فليس هناك ما يحرضنا على الحسم بأنها رواية “السيرة الذاتية”. أي أننا لا يمكن أن نضع هذا الكتاب في كادر المذكرات لسببين، أولهما أننا لا نعرف أمجد ناصر شخصيا ولا تفاصيل حياته التي مرت بفترات إشكالية، وثانيهما أن الكاتب يعتمد صياغة أدبية روائية، تختلط فيها الإتجاهات، بين الشعري والنثري، والسردي والتأملي، لنكء ذاكرة بطله واستثمارها أدبا.
اشتغل أمجد ناصر على تحويل الشخصي والذاتي والفني، توليفة من المجازيات والاستعارات الأدبية التي دخلت بثبات في قلب عمله. أما التقاطع بين ملامح أمجد ناصر الانسان وشخصيتي روايته، فيدل على أمانته في تحويل مكتسبه التاريخي وذاكرته وخبراته الشخصية في الحياة واختباراته لإيديولوجيات ليس ضروريا أن يكون عاينها شخصيا، وإنما عايشها من مسافة ما، وهذه كلها تتحول في العمل مادة، كإسمنت صلب، يثبت الأساسات لصيرورات حياتية تتطور وتتباعد تباعا عن أمجد ناصر الشخص والكاتب، بشكل تدريجي لتصب في مصلحة أدهم – يونس.
هي رواية الصورة، والوصف الذي يشبه بكرة سينما تدور بلا كلل، ماسحة المدن: “الحامية”، “جزيرة الشمس”، “بلاد السندباد” (ولنلاحظ دلالات كل اسم على حدة)، بتفاوت أهميتها بالنسبة الى ادهم، والأفعال والتطورات البشرية التي تنشأ عن الحقد، أو الكره، أو الحب، أو التآمر… إلخ. اختلاط هذه التسميات الرمزية وغيرها (كالوباء مثلا الذي يجتاح المدينة) بأمارات الواقع، يضع القارئ في لعبة معقدة وممتعة، بوليسية حينا وعاطفية سياسية حينا آخر. تُظهر الرواية أمجد ناصر كعامل ورشة صياغة، يضع السرد في حلة من الاستعارات المتلاحقة التي كخيط أبيض في العتمة، تدلنا بالإضافة إلى ما نفترضه قصدية الكاتب السياسية والاجتماعية، إلى جمالية العمل، وتضفي صدقية على أسلوبه، الذي هو شاعر في الأساس ولا يعمل على التجرد تماما من هذا المكتسب. فهو لا يتخلى عن صوته الشعري في العمل، الذي ليس في الضرورة أن يكون شرطا، بل إن الصياغة الأدبية في العمل تخلط الشعري بالخبري، وتعيد نسج الحكاية المعيشة، أو المخترعة، داخل العقل الشعري النشط، والمتأهب لكبح جماح نفسه، لحماية هوية العمل (رواية) من أن تصبح فبركة شعرية بالمطلق. ما يقدم المجاز بخفة ومنطق ويرفع الرواية كذلك إلى المجاز، بعيدا عن التراجيديا والبكائيات واللوم.
كما الامكنة، فإن الشخصيات المتفاوتة في حياة البطل العائد تأتي محملة رمزيات، فمحمود، رفيق مشكوك في أمره، بورجوازي صغير، أو “مثقف” وصولي، ويظل لصيقا بالبطل نفسه، أدهم. و”خلف” الذي تغير كل شيء حول “الحامية”، إلا هو وخيمته التي للحراسة. هناك مثلا زوجة صديقه ورفيقه المستشهد في النضال والذي تربطه بها علاقة جنسية عابرة، تفضي إلى النفاذ إلى الداخل ومساءلات الجسد والأنا والزمن والإيديولوجيا. و”الصياد” صديقه المتعطش للجنس دوما بوصفه حاجة كالطعام والشراب، وشخصه الذي يفضي إلى أسئلة عامة ينفض اللثام عنها أمجد ناصر، عبر الدخول في هوية النفس إلى حد ما، وسلوكها، ومدى تقاطعها مع الظرف السياسي… إلخ.
ما يقيمه أمجد ناصر في هذه الرواية هو التوازن بين كائن أدهم السابق (يونس الخطاط)، ومحيطه الحالي (غير المنتمي إلى هذا الكائن). فهو وإن بدا مطوقا من الداخل والخارج، إلا أنه ينجح في السيطرة على ذاكرته المنقسمة، والقفز من حيز فيها إلى آخر، من دون إرهاق القارئ، وربما هذا ما يستدعي في الأسلوب، حتمية وجود الفجوات الجميلة التي تحدث عنها الياس خوري في المقدمة، والتي من خلالها، لا يمتثل الكاتب لشروط الزمن وسياقه في الاتجاه الواحد.
“حيث لا تسقط الامطار” ليست رواية الخسارة، ولا الفقد، بل الاستعادات، ولملمة نثار الذاكرة التي خلّفتها حال سياسية عامة. وهي تحرك بين ذاكرتين، بين حاضرين محورهما عودة ميكانيكية (إلى الحامية) وأخرى ذهنية (إلى يونس)، ترابطان الواحدة للأخرى، لينهل الواحد منهما من صحن الآخر.
مازن معروف
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى