وعاظ الفضائيات: الوجه الآخر للاستبداد
د. عماد عبد الرازق
اثار ما كتبته مؤخرا عن ‘ الحبيب علي’ غضب بعض القراء على ما بدا من تعليقاتهم. وقد هاجمني البعض هجوما شخصيا لمجرد انني انتقدت الرجل. وكما هي الموضة السائدة في تعليقات القراء في كافة الصحف العربية ومواقع الانترنت غالبا ما يتذيل الهجوم على هذا الكاتب او ذاك باتهامات تصمه بأنه من اتباع هذا الفريق او ذلك الفكر ام متحزب مع زيد ضد عبيد، وهو ما يعكس في حد ذاته حالة الاستقطاب الحاد والمريضة التي تنخر في العقل العربي. فالأمور دائما بين الأبيض والأسود، معهم او عليهم، ولا ثالث لهما.
هالني وأحزنني ان كل التعليقات تعلقت بقشة واهية عن جنسية الحبيب علي، فمن قائل بأنه حضرمي ومن قائل أنه يمني نشأ في السعودية نافيا نفيا قاطعا ان يكون عمانيا. قارئ غاضب اتهمني بالشوفينية ضمنا لأنه لا فرق بين يمني وعماني ومصري وتونسي ومغربي. أى أن كلامه نفسه مردود عليه بلسانه. ما همك او همنا إن كان يمنيا ام سعوديا ام موريتانيا طالما انكم تقولون اننا كلنا عرب. وشخصيا لا ارى فرقا بين العماني واليمني والسعودي والقطري والبحريني، فجميعهم من سكان شبه الجزيرة العربية، وحري بالمحتجين ان يتذكروا ان كل هذه التسميات والحدود مصطنعة سياسيا منذ حقبة الاستعمار، فخففوا من غلوائكم ياسادة. في هذا الصدد تعجب قارئ آخر من قولي انه عماني يعظ في مصر، وشبه الأمر بجمال عبد الناصر الذي كان مصريا وتبعه كل العرب. ونسي القارئ ان عبد الناصر كان زعيما مصريا اولا وفرض نفسه رئيسا وزعيما لمصر ومن منطلق ما حققه لمصر في سنوات قليلة توجه بانتصاره سياسيا على العدوان الثلاثي صار زعيما ملهما لكل العرب وتجسيدا لكل الشعوب المناضلة ضد الاستعمار. اين هذا من الحبيب علي الذي لم نسمع به لا في اليمن ولا حضرموت ولا السعودية وانما اطل علينا فجأة من مصر. فما الذي حققه وهو في مقتبل العمر في بلده حتى يعتلي منبرا في مصر؟ حتى لقب الحبيب اختلف القراء في كونه جزءا من اسمه ام لقبا يطلق على آل البيت، وتلك تفصيلة فرعية اخرى تعلق بها القراء دون الجوهر.
اما موقفي من وعاظ الفضائيات ايا كانت جنسيتهم فهو بيت القصيد. فلدينا الكثير الكثير منهم ‘ واكتر من الهم على القلب’ كما قلت، من مصريين وسعوديين وغيرهم، وقد اعتلى كل منهم منبرا فضائيا ليقول ويكرر نفس الكلام الذي يتداولوه جميعا: عن الفرائض والعبادات والنوافل وقصص الصديقيين والأبرار والحلال والحرام الى آخر كل ما يدخل في العبادات والوعظ الداجن المدجن. اما الواقع الذي نعيشه ونرزح تحت وطأة أعباءه وامراضه المتفشية من فساد واستبداد وفقر وضنك وبؤس وجوع وامراض فلا مكان له لدى هؤلاء الوعاظ الذين ازعم ان جميعهم نسخة واحدة يمتحون من نفس الصفحة ويتخفون وراء عباءة الوعظ من التصدي لهموم الناس وقضاياهم. هذا هو الجبن بعينه، ولو تجرأ أحدهم وتحدث في السياسة لما مكث دقيقة واحدة على شاشة فضائية في مصر او السعودية او اي بلد عربي. أو يجرأ أحدهم على التعرض بالنقض لسلطان او ملك او رئيس؟ أو يجرأ احدهم على تناول قضية توريث السلطة في الجمهوريات وفساد ونفوذ ابناء الحكام. هيهات. فما نفع صلاتهم وصيامهم وعظاتهم إذا. لا نريد وعاظا من هذا الفصيل المستأنس، الذين تفتح الحكومات لهم الفضائيات لتدجين الناس والهائهم بتفاصيل التفاصيل عن الحلال والحرام حتى يتغافلوا عن ظلم الحكام واستبدادهم. نريد وعاظا يستلهمون أبي ذر الغفاري الصحابي الجليل وأول مصلح اجتماعي في تاريخ اٌلإسلام. نريد وعاظا على شاكلة جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وقاسم أمين. نريد قادة يلهمون الناس ويقودونهم ضد الظلم والطغيان والحكام المؤبدين. كفانا وعاظ الموضة او من امثال مصطفى حسني وعمرو خالد وخالد الجندي والحبيب علي، فاين تحصيلهم العلمي والفقهي الذي يؤهلهم لأدوار كانت تقتصر في الماضي القريب على العلماء الراسخين من امثال الشيخ الشعراوي والباقوري ومحمود شلتوت الذين افنوا عمرهم في التحصيل العلمي والتثقيف؟ والظاهرة في النهاية ليست إلا موجة، أو قل إنها هوجة، بدأت بأحدهم وتبين شعبيتها فتبعته كل الفضائيات التي رأت ومالكيها- وجميعهم من النافذين على السلطات والحكومات بدرجة او بأخرى، وسيلة ناجحة للترويج واكتساب الجماهيرية وسعة الانتشار، وأولا واخيراًَ، تدجين الشعوب لصالح من يقفون وراء مالكي الفضائيات. وبنى كل منهم تجارة رابحة ( خالد الجندي خرج يوما في ‘البيت بيتك’ يدافع عن تكسب الوعاظ من الوعظ متعجبا للذين ينكرون المكسب ‘ الحلال’ على الشيوخ، ولماذا هم بالذات؟)، ويتبعون احدث اساليب التسويق والدعاية والترويج، فبوسعك ان تحصل على زجاجة زيت او علبة سمن (وقريبا وجبة ماكدونالد) إذا ما اشتريت الأعمال الكاملة لعمرو خالد. وفي وسط ميادين القاهرة تجد إعلانات ضخمة تحمل صورا لمصطفى حسني تماما على طريقة إعلانات نجوم ونجمات السينما، تحت عنوان ‘ الكنز المفقود’، كنز الإيمان الذي اكتشفه هو بالطبع ولم نكن نحن المسلمين السذج قد سمعنا به من قبل. هؤلاء يقودون الناس الى سبات عميق ويغرقونهم في غياهب التدجين والتسليم بالأقدار والاستسلام للمظالم والاستبداد والطغيان والصبر على المكاره طمعا في الفوز بالأخرة، لأن الدنيا عرض زائل وقد سميت دنيا، من الدنو فياحبذا لو عجلنا بموتنا لنفوز بالكنز المفقود.
لكل هذا فإن كل هؤلاء الوعاظ هم الوجه الآخر لأنظمة الاستبداد ليس فقط بفحوى دعاواهم وإنما بصميم اسلوبهم الأحادي السائر دائما في اتجاه واحد: هم يتكلمون ويعظون ويسهبون في الحديث بالساعات.. والناس ينصتون وكأن على رؤوسهم الطير. لا نقاش ولا جدال ولا اخذ ولا رد ولا أحد يجرؤ على تحدي آراء الواعظ المفوه فهو لا ينطق عن الهوى والسمع والطاعة هما المراد، تماما على طريقة البرامج السياسية الحكومية التي تروج لانجازات الحكومة والأيادي البيضاء للسلطان ومكرماته الذكية على الرعية الغبية.
القدس العربي
يأخي أغلب الناس ماشين الحيط الحيط ويقولون يارب سترك على طريقة الشاعر ابن الوردي الذي يقول
جانب السلطان واحذر بطشه = لاتعاند من إذا قال فعل
فمن كثرة مابطش هؤلاء الحكام وأجهزة مخابراتهم القمعية بالشعوب جبنت هؤلاء الشعوب وأصبحوا يرددون مع ملوكهم كل من يقف ضد الحاكم بالإرهاب والمصيبة الأْدهى والأمر أن أمريكا ودول الغرب تساند هذه الأنظمة القمعية لأنهم يسرقون شعوبهم ويضعون أموال هذه الشعوب في حساباتهم لدى بنوك أمريكا وأوربا ، وأوصي القارىء بقراءة قصيدة بدوي الجبل الذي مطلعها : رمل سيناء قبرنا المحفور = وعلى القبر منكر ونكيــر
وفيها أيضاً يقول :
يقف المتهمان وجهاً لوجه = حاكم ظالم وشعب صبور