كتاب شهداء الله الجدد: عندما يصبح الموت طريقاً للجنّة أو تحريراً للأمة
نظام مارديني
نوعان من الشهادة يعرضهما هذا الكتاب »شهداء الله الجدد« للباحث الإيراني فرهاد خسرو خافار. الأول، يمكن رؤيته من خلال ذلك التماهي القائم بين الإسلام الكلاسيكي والمعولم، ارتبط بشكل وثيق ومباشر بانهيار العالم ذي القطبين، كما ولدّ ظواهر رمزية وثقافية مرتبطة بعضها ببعض، عبر تنظيم القاعدة. والثاني، نراه في الأحزاب العلمانية: القومية والماركسية. وهذا ما سنأتي عليه خلال تطرقنا لظاهرة الاستشهاد في لبنان، خلال فترة الاحتلال »الإسرائيلي«.
إن »صناعة الشهداء«، بمعنى مضاعفة عدد المرشحين للموت المقدس، هي نشاط يتطور في العصر الحديث، على عكس النظريات الدنيوية الكلاسيكية التي كانت تعلن نهاية مثل هذا النشاط مع تحديث المجتمعات.
وهناك شكلان لعبادة الشهادة، شكل يصل الى استحالة تكوين الذات في الأمة الإسلامية، وآخر يرغب في إقامة أمة إسلامية عابرة للقوميات، والشكلان يعتبران الغرب عدوهما، وتقترن هذه الكراهية بالضغينة التي وصفها نيتشه والتي استعادها ماكس شيلر. ونجد في الضغينة بعداً، من الممكن وصفه بغير المنطقي. إن كره جماعة نختارها لمعاقبتها (كراهية المسلم المتطرف للغربي، أو كراهية الجماعات اليهودية المتطرفة للمسلم)، هذا الكره يعمي بصيرة الذين يسكنهم، ويفقدهم أهليتهم لاختيار استراتيجية غير استراتيجية الموت: قد يتعلق الأمر بقتل الآخر بأي ثمن، أو بقتل النفس، أو الاثنين معاً. وينظر هذا المنهج المميت الى الحياة كحالة نقص بالنسبة للهناء الذي يتحقق عبر القضاء على الذات وعلى الآخر، أو الشهادة. هذا النوع من الشهادة وسم بميسم الضغينة، ومضمونه الأنتروبولوجي لا يحمل عقلية الأتباع الذين ينوون النضال حتى الموت ضد العدو، عبر القبول باحتمال الموت في معركة نهايتها غير أكيدة.
في الشهادة المرضية، سواء أكان على مستوى المؤثرات أم منطق العمل، الأمر يتعلق بنوع مسلكي يقيم الموت كنهاية لا الحياة. من المؤكد أن هذا النوع من العمل بإمكانه أن يبرر بمرجعيته لمثالية »سامية«. فالشهادة، كما البطولة، تعني التضحية بالحياة في سبيل مثالية تفوقها في المكانة. بذلك، لم تعد الشهادة غير منطقية أكثر من أنواع أخرى من التفاني، وفي نظر فاعليها، ثمة تأكيد شرعي لمطالبهم التي لا يمكن وصفها بالمرضية. تنتج الشهادة المرضية عندما يتم الانعكاس الناتج عن ضغينة مضاعفة. أي لم يعد المبتغى هو تحقيق مثال الكمال المطلق فحسب، بل التخلص من الحياة، عبر القضاء على العدو في تصور يهدف الى إنهاء الحياة. طالما نحن في منطق الشهادة فإن موت الذات والعدو يخضع لهدف يقضي على الظلم، ويقيم العدل، ويعيد العلاقات مع حياة سعيدة للعالم أجمع (أو المجتمع).
في حالة الأمة الجديدة الأسطورية والعابرة للقوميات، يكمن الانعكاس في تضخيم واقع افتراضي منقوش في قلب المشروع، ثمة ميل هنا لدى المؤمنين، لأن يصابوا بالشهادة المرضية، حيث يكون، المثال المناط بالحركة هو في أساسه مستحيل المنال ومنذ البداية. بينما الشهادة المرضية تحمل معنى مأساوياً لدى أتباع هذه الجماعة العابرة للقوميات ـ لا يمكن تحقيق الذات، وأن مطالب الفرد تواجه رفضاً قاطعاً ـ أما في الحالة الثانية، فإن غياب المأساوي هو المعلوم.
لدى تنظيم القاعدة، يقترن الشعور بالانتماء إلى الإسلام حسب منهج شمولي يختلف عن نهج الشهادة القومية. فما يسعى لتحقيقه هو حركة تأسيسية لدولة إسلامية على الصعيد الكوني، وذلك في غياب مجتمع إسلامي يصلح لمشروع كهذا. فهناك مجتمعات إسلامية في عالم الواقع وليس مجتمعاً واحداً. وهذه الأمة الجديدة الأسطورية البحتة تفترض ضمناً وجود عدو أسطوري على غرارها، غرب أسطوري، اختراع ابتكره أتباع إسلاميون. تكمن كل المشكلة في معرفة إن كان الأمر في هذه الحالة يتعلق بحرب بين الحضارات في عالم يتسم بنهاية الأيديولوجيات، أو بظاهرة من نوع آخر؟
ويمكن أن نميز نوعين من الشهادة يرتبطان بالجماعة القومية المستحيلة. ومثال ذلك الوضع الفلسطيني، والوضع الإيراني. ففي الوضع الفلسطيني، إن مهمة إنشاء الدولة ـ الأمة (الانتفاضة الأولى) والشعور باستحالة تحقيقها (الانتفاضة الثانية) هما الدافعان الأساسيان للشهادة. أما في الوضع الإيراني، فلا ريب أن الدولة ـ الأمة موجودة، لكن الحرب ضد العراق ما لبثت أن شكلت تهديداً لها. إذ عاشت إيران هذه الحرب وكأنها مكيدة إمبريالية تهدف إلى تحطيم الأمة الإسلامية. فتكون الشهادة نتيجة لواقع أليم يكمن في التحقق من عدم القدرة على بناء أمة إيرانية تتطابق مع نموذج الإسلام السياسي الفاضل والبطولي.
خضعت الشهادة الفلسطينية (حماس والجهاد الإسلامي)، والإيرانية لمنطق داخلي نشأ عن طموح محبط بأمة لم تتحقق. ولكن ثمة فارقاً بين الوضعين الفلسطيني والإيراني. بينما تلعب الدولة في إيران دوراً جوهرياً، فإن الدولة الفلسطينية الجنينية الموجودة مهمشة بسبب النزاع على احتكار المقاومة من قبل الحركات المسيطرة على الأرض. زد على ذلك، التغير الذي طرأ على معنى الموت المقدس بين الانتفاضة الأولى (١٩٨٧ـ ١٩٩٣)، والثانية التي بدأت في تشرين الأول .٢٠٠٠
إن البعد الديني يصلح هنا كمسوغ لواقع الشهادة. إذ ملكت الانتفاضة، باسم الإسلام، مصادرها اللازمة »لتوريط« الحياة. ومكافأة الشهيد تكون بالعيش في هناء قرب الله بعد الموت. وأبواب الجنة مفتوحة لمن يقضون في سبيل الله، عبر منح نضالهم معنى مطلقاً، وعبر جعله في قلب الدين، ولكن إحدى السمات المهمة للرغبة في الموت والقضاء على العدو، هي شعور بعداوة لا تنتهي، وبحرب لن تشهد حسماً.
ويبقى أن الحالة اللبنانية هي الأكثر تعقيداً وتشعباً. لأن الأمر متعلق بمجتمع، حيث فسيفساء الطوائف المختلفة، المسلمة منها والمسيحية، تشارك في إدارة البلد منذ إنشاء الدولة اللبنانية.
أزمة النموذج المتعدد الطوائف واجتياح »إسرائيل« للبلاد ولّد وضعاً جديداً ازدهرت فيه الشهادة. ولكننا، إذا كنا في الحالة الفلسطينية والإيرانية، أمام عدو أجمع الجميع على هويته، فنحن في الوضع اللبناني أمام عدو مجزأ وهويته لم تحظ بإجماع. بالنسبة لفريق من المسيحيين، أنقذ الاحتلال »الإسرائيلي«، عبر تدخله في لبنان، البلاد من انقسام كان يهدّد به الفلسطينيون، والمقاومة المدعومة من سوريا وإيران. بالنسبة للمسلمين اللبنانيين، تشكل »إسرائيل«، العدو رقم واحد.
يستشهد الشهداء اللبنانيون لأسباب سياسية ودينية، وينبع من رغبتهم في المشاركة في الصراع القومي، سواء أكان ذلك في إطار حزب علماني، سياسي قومي سوري و شيوعي، أو في إطار ديني كحركة أمل وحزب الله، والأخير نفذ أولى عملياته ضد أهداف أميركية وفرنسية، وإذا كانت عمليات القومي والشيوعي بدأت مع الدخول »الإسرائيلي« لاحتلال لبنان إلا أن سرعان ما تحولت هذه العمليات الى نوعية ـ استشهادية منذ بداية العام ،١٩٨٥ مع عمليتي سناء محيدلي (قومية)، وجمال ساطي (شيوعي).
وإذا كان »المقدس« صفة لاحقت كل الأحزاب سواء أكانت علمانية أم دينية إلا أن ما يميز الأحزاب الدينية هو سعيها إلى تحقيق اللقاء بالخالق في معركتهم ضد العدو الكافر، في حين كانت الشهادة بالنسبة للشيوعيين والقوميين هي في تماثلهم بالمجتمع القومي ـ وأبعد من ذلك، بمجتمع فقراء العالم.
فرهاد خسرو خافار ـ »شهداء الله الجدد في سوسيولوجيا العمليات الانتحارية« ترجمة: جهيدة لاوند ـ دار المدى للثقافة والنشر، معهد الدراسات الاستراتيجية.
([) كاتب سوري
السفير