فصلٌ في فرض الرقابة على اللغة
أدونيس
(لمناسبة زيارة للجزائر 13- 15 تشرين الاول /اكتوبر 2008، وتحية لجميلة بوحيرد، وللمرأة الجزائرية بعامة).
راقبوا اللغة
كونوا أشداء في هذه الرقابة. حتى لو اقتضى الأمر ان تحذفوا من الأبجدية نصف حروفها، أو حروفها كلها.
لا حاجة لكم فيها.
خصوصاً تلك الحروف الأربعة المارقة: حاء، راء، ياء، تاء. وتلك الحروف الثلاثة الضالة: عين، لام، ميم.
إنها حروف تنشر الأمية والبطالة والفقر والاستبداد والاستعمار والمذهبية والطائفية. وهي السبب الأول للتخلّف والانحطاط.
راقبوا اللغة.
ما لتلك البلاد التي أنتمي إليها، لا تُصفّق إلاّ لأغلالها؟
ما لها، لا ترى الأبجدية إلاّ سيوفاً،
وإلاّ سُجوناً؟
-3-
نجمةُ الجنس فلاّحة
تتسكّع بين الحقول
نجمة لا تحبّ الأفول.
-4-
في القصيدة يبحثُ حبي عن نفسه:
فراشاتُه
تتساقطُ في نارها.
سيطولُ بي الوقتُ كي تتجدّد أشكالُ حبي،
حيرتي مُرّةٌ
غضبي لا يزالُ يغذي طريقي
ويُغذي هوايْ.
رسَمَتْه على كل شيءٍ، خُطاي.
-7-
في رحيلِك، يا امرأة الحبّ، أكثر من مَرْكب.
في حنينكِ أكثرُ من شاطئ.
غير ان الصخور التي تترصّد حُرية الرحيل
وحرّية الحنين، أمامَكِ، مستنْفَرَاتٌ.
-8-
لا يقدّم حبي برهانَهُ الى أي شيءٍ.
هكذا سأقول لحبّي: كُنْ كلَّ شيء.
-9-
في الطريق الى كل شيء.
يضعُ المستحيلُ قناعاً على وجْههِ
راقبوا اللغة.
ربما يتوجّب على الإنسان خصوصاً عندنا، نحن العرب، ان يعيش «خاضعاً»، «طائعاً»، «صامتاً».
ربما يتوجّب عليه ان يؤمنَ بما لا يحقّ له ان يطرح عليه أو حوله سؤالاً واحداً.
-10-
راقبوا اللغة.
«الحقُّ في قول كل شيء، وكتابةِ كل شيء، والتفكير في كل شيء، ورؤية كل شيء، وسماع كل شيء، ينبثقُ من اقتضاءٍ مسبَّق هو أنه لا وجودَ لحقّ أو لحرّية في القتْلِ، أو في التعذيب، أو في الاضطهاد والقمع والإهانة أو في الإكراه والقَسْر…»
(راوول فاينجيم).
-11-
«لا يمكن ان يقال كل شيء»،
«يمكن ان يقال كل شيء»:
توضح الجملة الأولى طبيعة العلاقة بين الإنسان والحرية في المجتمعات التي تهيمن عليها أنظمة شمولية ديكتاتورية.
وتوضح الجملة الثانية طبيعة هذه العلاقة في المجتمعات التي تهيمنُ عليها أنظمة ديموقراطية.
-12-
بعضُ الكتّاب، في المجتمعات غير الديموقراطية خصوصاً، يستخدمون اللغة بطريقة لا تليق بالكتابة ولا باللغة: تشويه الكاتب المخالف. يحرّفون كلامه، يختلقون كلاماً ينسبونه إليه، يزوّرون آراءه ومواقفه…الخ، كما لو أنهم كلابُ حراسةٍ للسلطة: لا يناقشونه، وإنما «يتّهمونه».
الطغيانُ من داخل الكتابة، وباسم الكتابة وقوّتها، أشدّ امتهاناً للغة والإنسان من طغيان السلطة نفسها.
-13-
لا أشك/ الحقيقة أو ما يسمّى كذلك حبرٌ – مزاجٌ وأنشودةٌ/ تتغنّى بها جوقةٌ على مَسْرح/ يتجمهرُ فيه فمٌ واحدٌ اسمه بابل/ والحقيقة فصلٌ/ في كتاب بلا كاتب/ لن تكون له حجّة/ لن يكون له خاتمٌ/ هوذا بُرعمٌ يتفتّح – يكفي ان ترى وردةً تتفتّح حتى تُحبَّ وحتى تكونَ الحياةُ على هذه الأرض سحراً.
«ارْقُص الآن»، قالتْ. إنْ رقصْتَ رأيتَ الثنيّة في الخصْر كيف تُربّي محيطاً وترعى فضاءً
إن رقصْتَ انقلبْتَ الى فتنةٍ/ لا يرى الكونُ إلا في ينابيعها/ وجوهَ أحبائه/ قُم الآن وارْقُص/ تموتُ الحكايةُ في الرقصِ والسرد يخجَلُ من نفسه: الرقصُ شعرٌ.
وماذا أقول لشحّاذ هذي المدينة في سوقها واقفٌ يتحدّث مع نفسِهِ/ كل يومٍ آراهُ/ غالباً أتفقّدُ جيبي من أجلهِ وأُعطيه ما يتيسّر/ لكنّي اليوم أشعرُ أنّي في حاجة لأشحذَ/ مَنْ قادرٌ أن يلبّي لي رغباتي؟ كلاّ/ لستُ في حاجةٍ لأشحَذَ إلا قلقَ الريح/ مرّتْ عصورٌ، ومرّت شعوبٌ والمدائنُ تشحذُ أظفارَها وأسنانَها/ وتشحذُ ضوءاً يضيءُ خطاها/ لا دُموع لديّ لأبكي مِعراجَها/ في الطريق الى يأُسِها/ أو إلى موتِها
يا مُحيط النهايات عفواً، وقلْ لي:
هذه الأرضُ، ماذا تخبّئ في صمتِها؟
-14-
اللغة العربية زهرة ذابلة في كأس اسمها السياسة.
-15-
تخرج الكلمات العربية من المُعجم لا لكي تفرحَ او تحبّ أو ترى الحياة، بل لكي تدخلَ الى المشْفى.
-16-
تبني السياسة للّغة العربيّة مسرحاً لا يدخلُ إليه إلاّ الكون سفينةٌ عظيمةٌ تُبحر نحو المجهول مليئة بلغات الشعوب كلها، إلا باللغة العربية.
-18-
على كل كلمة في اللغة العربية وضعت السياسة حجاباً، وقالت للفقهاء أن يكونوا حرّاساً عليها.
-19-
أستطيع ان أرى الدّمع ينهمر من عيني كل كلمة في اللغة العربية وأن أسمعَ نواحَها.
-20-
اللغة العربية، خلافاً لما يُظنّ، أمٌّ لجميع العواصف التي عرفها تاريخ العرب.
لكلماتُ غيومٌ تارة، وتارةً شموس.
عن جريدة الحياة