تنافس داخل الصف الواحد

محمد مشموشي
لماذا “تحلم” دول بعينها، ومن دون ما عداها من الدول في العالم، (سوريا وايران وفنزويلا على سبيل المثال) بعودة “الحرب الباردة” التي طبعت نصف القرن العشرين، بينما لا ترى ذلك دول يفترض بها أن تكون طرفا في هذه الحرب (ولا حرب ساخنة، أو باردة، من دون طرفين) كروسيا والصين والاتحاد الأوروبي على سبيل المثال أيضا؟! وأية “فائدة” تتوقع هذه الدول أن تعود عليها، أو على دول العالم الأخرى، من مثل هذه الحرب؟!
بداية الكلام على عودة “الحرب الباردة” ظهرت الى العلن بعد العملية العسكرية الروسية ضد جورجيا، ثم أخذت أبعادا جديدة عقب تجاوب موسكو مع عرضين، سوري وفنزويلي، لاعادة ترميم مرفأ طرطوس الذي كانت البحرية السوفياتية تستخدمته في فترة سابقة وارسال قاذفتي قنابل روسيتين الى فنزويلا لاجراء تدريبات مشتركة مع القوات المسلحة الفنزويلية.
وعمليا فقد حدث ذلك، ولا يزال مستمرا الى الآن، بالرغم من الاقتناع الدولي السائد بأن “الحرب الباردة”، كما عرفها العالم في القرن العشرين، لم تعد احتمالا ممكنا، ولا حتى خيارا مقبولا، أقله على امتداد الثلث الأول من القرن الحادي والعشرين. أما أسباب ذلك فعديدة، وان يكن أهمها، بحسب المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية “نهاية التاريخ” التي عاد عنها لاحقا، لا يعود فقط الى الخلل الكبير في “ميزان القوى ” العسكري، خاصة أن الحرب السابقة انتهت الى هزيمة سوفياتية من دون استخدام السلاح، بل أولا وأخيرا الى غياب الدافع الإيديولوجي لمثل هذه الحرب، اضافة الى اختلالات في “موازين قوى” أخرى – سياسية واقتصادية ومالية وعلمية وتكنولوجية – أهم بما لا يقاس من الخلل في ميزان القوة العسكري.
لكن السؤال يبقى: لماذا، بالرغم من ذلك، لا تزال بعض الدول تحلم بمثل هذه الحرب، بل لماذا الاندفاع المتهور و”السخي” في اتجاهها… الى درجة أن الرئيس السوري بشار الأسد طالب روسيا، في مقابلة مع التلفزيون الايراني (وللقائل وللشاشة رمزية معينة هنا) بعدم الاكتفاء بخوض ” الحرب الباردة ” من داخل أراضيها فقط؟!
قد يسرع البعض الى القول ان أنظمة الحكم في هذه الدول، ولكل منها مشكلته مع جواره أو مع دول أخرى في العالم، ترى أن في مقدورها حل مشكلاتها هذه، أو بعضها، عبر التعلق بـ “محور” دولي، سياسي أو عسكري أو اقتصادي أو حتى “عقائدي”، فضلا عن استخدام ذلك في بناء منظومة أفكار وشعارات تغطي حربها من أجل البقاء. لكن هذا القول لا يكفي وحده للاجابة على السؤال، لأسباب عديدة أهمها اثنان: التصاق هذه الأنظمة بالماضي ورفضها مغادرته من ناحية، وعجزها من ناحية أخرى عن التأقلم مع الحاضر – فضلا عن الدخول الى المستقبل – السياسي والاقتصادي والعلمي والمالي المعولم بشكل شبه كامل. وذلك حديث آخر في كل حال.
المهم بالنسبة لهذه الأنظمة، كما يبدو، أن العودة الى “الحرب الباردة”، أو الى أية “حرب باردة” أخرى، من شأنها أن تعيد خلط الأوراق على الساحات الدولية والاقليمية (وتاليا، الداخلية المحلية لما لها من ارتباط بها)، واقامة “ستاتيكو” دولي – اقليمي جديد يصبح معه الحديث، ليس عن تغيير الأنظمة بل عن مجرد تغيير سلوكها، مجالا لمعارك وحروب مفتوحة على مستوى العالم وبين مصالح القوى الكبرى المتنوعة والمتناقضة فيه. لكن عالم القرن الحادي والعشرين، بحسب دراسات استراتيجية غربية وشرقية على حد سواء، يعيش في مناخات مختلفة تماما. ومع أنه لا ارتياح دوليا، ولا قبول، لوحدانية الدولة العظمى (الولايات المتحدة) في العالم منذ انتهاء “الحرب الباردة” في تسعينات القرن الماضي، خاصة في ظل ممارسات ادارة جورج دبليو بوش العنجهية وسياساتها المتفردة في الأعوام الثمانية الماضية، الا أن البديل المطروح من هذين اللاارتياح واللاقبول يقف عند حد التطلع الى عالم متعدد القطب فقط لا غير، من دون أن يتجاوزه – حتى في روسيا والصين، فضلا عن الاتحاد الأوروبي – الى أي نوع من أنواع “الحروب الباردة” أو العودة الى الماضي.
ولعل ما قاله كل من الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف ورئيس وزرائه فلاديمير بوتين، في الفترة الأخيرة، يكفي لتأكيد هذه الحقيقة. قال ميدفيديف انه اذا كان هناك من يدفع حاليا في اتجاه “الحرب الباردة” فهو الغرب، والولايات المتحدة بالذات، وأن بلاده لن تخاف من هذه الحرب بل ستكون مستعدة لها اذا كان لا بد من ذلك. أما بوتين فقد ذهب أبعد من ذلك عندما أعلن ان هدف الغرب من مثل هذه الحرب هو منع روسيا من مواصلة ما بدأته من تحديث لهيكلية اقتصادها وبنيته.
ذلك أنه لا “حرب باردة”، كما كتب فوكوياما في مقال له في صحيفة “لوس انجليس تايمز” نشر قبل أسابيع، من دون أن تكون في خلفيتها ايديولوجية محددة تقاتل (سلما، أو حربا) من أجلها. تماما كما لا “حرب باردة” من دون الدخول في سباق تسلح عالمي جديد، بدءا على الأقل من نقطة حرب النجوم التي كانت أكبر العوامل في ايصال الحرب السابقة الى ما انتهت اليه. وليس في الوضع الدولي الآن ما يشير الى نقيض ذلك، لا في ما يتعلق بالتنافس على سيادة العالم بين الايديولوجيتين الماركسية والرأسمالية، ولا في ما يتعلق بالصراع على النفوذ بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولا أساسا في ما يتعلق بالسباق على التسلح بعد أن تحول الفضاء الخارجي الى “حقل تجارب” للقدرات المالية أكثر منه للقدرات العلمية والعسكرية.
على الصعيد الإيديولوجي، يتأكد في كل يوم أن ما بين روسيا والصين والاتحاد الأوروبي من جهة والدولة العظمى الوحيدة (الولايات المتحدة) من جهة ثانية هو تنافس من داخل الصف الواحد: الليبرالية الاقتصادية، والمبادرة الفردية، واقتصاد السوق بما فيه عضوية هذه الدول الكاملة في المنظمة العالمية للتجارة الحرة.
ولم يعد من شك الآن أنه من داخل هذا الصف، اضافة الى الدفاع عن كرامة روسيا في وجه تمدد الحلف الأطلسي الى حدودها، جاءت العملية العسكرية الروسية ضد جورجيا، التي رأى فيها البعض مؤشرا على “الحرب الباردة”. فهي، من ناحية، رد على أنبوب باكو – جيهان (الأميركي – الأوروبي) للنفط والغاز، وتطويق له من ناحية ثانية.
أما على صعيد سباق التسلح، فلا تقول القيادة الروسية – حتى مع التوازن المالي الذي حققته نتيجة ارتفاع أسعار النفط في الشهور الأخيرة – الا أن همها العناية باقتصاد البلاد وصناعاتها المدنية أكثر من أي شيء آخر. والأمر ذاته يصح بالنسبة للصين التي، وان أدى ارتفاع أسعار النفط الى اضعاف وتيرة نموها لهذا العام، فهي تسعى للتعويض عن خسارتها في هذا القطاع أكثر مما تتطلع الى السباق في مجال التسلح.
• • •
لا يعني ذلك، في أي حال، أن تطورا أساسيا لم يحدث على صعيد علاقات القوى الدولية في العالم من خلال لجوء روسيا الى استخدام القوة ضد جورجيا. لقد نشأ وضع جديد فعلا، لكن حدوده رفع “البطاقة الصفراء” في وجه الولايات المتحدة أساسا. ضد الاهانة المتمثلة بتمدد الحلف الأطلسي الى حدود روسيا من ناحية، والاعتراف الوحيد الجانب باستقلال كوسوفو من ناحية ثانية، والتهديد بعزل روسيا ومعاقبتها اقتصاديا تحت دعاوى مثل انتهاك حقوق الانسان وعدم احترام مبادئ وأصول الديموقراطية من ناحية ثالثة.
ولعل مبادرة موسكو للاعتراف الوحيد الجانب باستقلال كل من أوسيتيا الجنوبية وابخازيا انما يختصر القصة كاملة.

(صحافي)