التقرير الامريكي عن حقوق الإنسان: مَن كان بيته من زجاج
صبحي حديدي
في تقريرها السنوي عن أوضاع حقوق الإنسان في العالم، والذي اعتادت تقديمه إلي الكونغرس وإصداره في هذا الشهر من كلّ عام، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية إدراج كلّ من سورية والسودان وأوزبكستان علي لائحة الدول الأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان، والتي تضمّ كوريا الشمالية وميانمار وإيران وكوبا وبيلاروسيا وإريتريا وزيمبابوي.
في المقابل، جري شطب الصين من اللائحة استناداً إلي حزمة الإصلاحات (الإقتصادية عموماً، وليس السياسية أو الحقوقية المدنية) التي شهدتها البلاد مؤخراً، في إطار الإستعدادات لدورة الألعاب الأولمبية التي تحتضنها الصين هذا العام، كما ألمح جوناثان فارار، القائم بأعمال مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل.
السؤال الذي يقفز إلي الصدارة، بسبب من منطق المقارنة البسيط، هو التالي: هل كان النظام، الحاكم اليوم في دمشق، خارج دائرة الإنتهاك الشديد لحقوق الإنسان طيلة 45 سنة من حكم حزب البعث، بينها 37 سنة من حكم حافظ الأسد ونجله ووريثه بشار الأسد؟ وهل صار النظام ذاته، في هذه السنة وحدها، 2007، وليس قبلها، في عداد الأنظمة الأشدّ انتهاكاً؟ وزارة الخارجية الأمريكية تتكئ علي التالي، في تبرير ضمّ سورية إلي اللائحة السوداء: سجلّ حقوق الإنسان تدهور هذا العام واستمر النظام في ارتكاب تجاوزات خطيرة مثل احتجاز عدد متزايد من النشطاء وأعضاء منظمات المجتمع المدني وغيرهم من المنتقدين للنظام . وأيضاً، يضيف التقرير: النظام حكم بالسجن علي شخصيات رفيعة المستوي من مجتمع حقوق الانسان ، كما حاكم بعض السجناء السياسيين في محاكم جنائية، بينهم اثنان بتهم إضعاف المشاعر القومية في فترة حرب .
ولكن… ما الجديد في هذا كلّه؟ وكيف، إذاً، كانت الإدارة تسمّي قوانين الطواريء والأحكام العرفية التي فُرضت في سورية إثر انقلاب 1963 العسكري، وما يزال العمل بها قائماً حتي يومنا هذا؟ وماذا كانت تقول في وصف الحصيلة التراكمية لأحد أفظع السجلات السوداء في تاريخ انتهاكات حقوق الإنسان، حيث تضخمت الأحكام العرفية لتشمل المزيد من القوانين القمعية والمحاكم الخاصة والإستثنائية، وزجّ عشرات الآلاف في السجون، وتعريضهم لأنواع همجية من صنوف التعذيب، واختفاء نحو 17 ألف سجين سياسي في المعتقلات، يُعتقد أنهم قضوا تحت التعذيب أو في المجازر والإعدامات الجماعية التي شهدتها سجون تدمر ومعتقلات عشرات الأجهزة الأمنية، بموجب محاكمات ميدانية عسكرية صورية؟
ومن جانب آخر، أشار فارار إلي ثلاثة عناصر، جوهرية ويدعم واحدها الآخر ، لا بدّ من توفرها لكي تقرّ الإدارة الأمريكية بوجود تقدّم في ملفّ حقوق الإنسان: (1) سيرورات انتخاب حرّة ونزيهة، و(2) قيام مؤسسات حكومية ديمقراطية شفافة تمثيلية وخاضعة للرقابة، و(3) وجود جمعيات المجتمع المدني المستقلة، بما فيها المنظمات غير الحكومية. فإذا لم يتوفّر أيّ من هذه العناصر في سورية طيلة عقود وعقود، فهل تقول الإدارة إنّ حقوق الإنسان كانت منتهكة قليلاً فقط، أم كثيراً وبشدّة؟ وهل، في هذه السياقات، يجوز إفراد النظامين السوري والسوداني عن بقية الأنظمة العربية، حليفة الولايات المتحدة في السلم والحرب والسياسة والإقتصاد، علي شاكلة المملكة العربية السعودية في المثال الأبرز؟ وماذا عن سجلّ الدولة العبرية، الملطّخ بالدم والهمجية وليس بالحديد والنار فحسب؟
هنا تنفتح أحابيل ذلك الخطاب، الفاسد اللوذعي، الذي يزعم النطق بالحقّ ولكنه لا يريد إلا الباطل: هل الولايات المتحدة هي آخر مَن يحقّ له انتقاد سجلّ حقوق الإنسان في سورية، أو في السودان أو في السعودية أو في أوزبكستان… وهي الدولة الديمقراطية التي أدارت سجن أبو غريب والسجون الطائرة غير الشرعية، وما تزال تدير الجريمة القانونية الشائنة المستديمة في معتقل غوانتانامو؟ الحقّ أنها إذا لم تكن في عداد آخر مَن يحقّ له رمي أنظمة الإستبداد بحجـــارة انتهاك حقوق الإنسان، فإنّ الولايات المتحدة علي رأس الديمقــراطيات الغربية التي تقيم في بيت من زجاج، لا يسهــل رشقه بحجارة مضادة من النوع ذاته فحسب، بل يقتضي الواجب أن يكــون الرشق منهجياً ومنتظماً وصريحاً.
غير أنّ الجانب اللوذعي من المعادلة هو السؤال التالي: إذا كان سجلّ الولايات المتحدة ليس ناصعاً تماماً، بل هو في عشرات ملفات حقوق الإنسان قاتم أسود مريع فظيع، فهل يحقّ لأنظمة الإستبداد أن تعتبر تلك الملفات الأمريكية ذريعة للإمعان أكثر في القمع والقهر، بحجة أنّ الكلّ يقيم في بيوت من زجاج؟ وهل تصلح هذه المحاججة في تبرئة أنظمة الإستبداد، قليلاً أو كثيراً، وممارسة الدفاع عن طريق شنّ الهجوم المضاد؟ وبمعزل عن الدفاعات الديماغوجية التي تعتمدها أبواق الأنظمة، ألا نقرأ بأقلام بعض المحللين الغربيين، ممّن يطلقون علي أنفسهم صفة الخبراء في شؤون الشرق الأوسط، تبريراً لكثير من جرائم أنظمة الإستبداد، بذريعة أنها علمانية علي الأقلّ، وهي بالتالي خير وقاية للغرب من شرّ ديمقراطية لا يلوح انها ستأتي بغير الإسلاميين إلي الحكم؟
والحال أنّ بعض التأمّل الجادّ لا يغيب عن تحليلات أخري تنتهي إلي خلاصات مماثلة في الجوهر، وإنْ كانت لا تغازل أيّ نظام استبدادي في غمرة تنظيرها لصعود الإسلام السياسي. وهكذا، قبل سنوات قليلة، لم يجد تيموثي غارتون آش أيّ حرج، ولم يكن يطلق أية دعابة أيضاً، حين طرح السؤال التالي: هل أطلق أسامة بن لادن ثورة ديمقراطية في الشرق الأوسط؟ الرجل، أستاذ الدراسات الأوروبية في جامعة أوكسفورد، ساجل علي هذا النحو: لنفترض أنّ القاعدة لم تدمّر البرجَين التوأمين في نيويورك، فهل كان الشرق الأوسط سيبدو في حال الإهتياج التي هو عليها اليوم؟ وهل كنّا سنشهد اللبنانيين يتظاهرون من أجل الإستقلال في الساحة التي أطلقوا عليها اسم ساحة التحرير ؟ هل كنّا سنلمس بداية جدّية لديمقراطية فلسطينية؟ وانتخابات في العراق (أيّاً كان مقدار الخلل فيها، كما يقول غارتون آش)؟ وتباشير ضئيلة عن إصلاح ديمقراطي في مصر والسعودية؟ وهل كانت دمقرطة شرق أوسط أوسع نطاقاً، ستصبح شاغل السياسة الأمريكية والأوروبية؟
وإذْ يحاذرالإتكاء كثيراً علي روحية تلك الـ لو الإفتراضية الفضفاضة، فإنه يذكّرنا بأنّ بين قوانين التاريخ القليلة التي ما تزال سارية المفعول، ذاك القانون الذي يقرّ بدور العواقب غير المقصودة في أفعال البشر التي تسفر عن آثار مناقضة تماماً لمقاصدهم الأصلية. ويضيف: نعرف جيداً كيف كانت تبدو سياسة جورج بوش الخارجية قبل 11/9 المزيد من بناء القوّة العسكرية الأمريكية، ولكن مع تحاشي الإرباكات الكلنتونية الخارجية؛ والتركيز علي علاقات القوي العظمي، خصوصاً التنافس مع الصين. كان ثمة القليل فقط من الحديث عن الديمقراطية. وكانت إشاعة الديمقراطية جعجعة كلنتونية، ما خلا في أوساط بعض المحافظين الجدد الذين لم يكن الرئيس يعيرهم أذنيه آنذاك …
والواقع أننا، نحن وليس غارتون آش، لم نكن بحاجة إلي مَن يذكّرنا بالوضع المقابل علي الصفّ الموازي، حيث كانت الدكتاتوريات وأنظمة الإستبداد العربية (وهكذا، إجمالاً، تظلّ حالها اليوم أيضاً) زبونة معلنة عند واشنطن، أو عميلة مستترة في الباحة الخلفية من تابعيات البيت الأبيض، أو في خانة الدولة المارقة المسيّجة جيداً داخل قفص الحصار أو العقوبات الإقتصادية. وأمّا الشعوب العربية فإنّ مواقف البيت الأبيض من حقوقها السياسية والإنسانية والدستورية لم تكن تخرج عن النفاق وليس الجعجعة الكنتونية وحدها، والتستّر علي الطاغية أو التوطؤ معه، فضلاً بالطبع عن شدّ أزر إرهاب الدولة وتجميل بربريتها كما في المثال الإسرائيلي.
وللإنصاف، ولكي لا يبدو سجال الرجل ناقصاً أو كسيحاً، أوضح غارتون آش أنّ افتراضاته هذه لا تعني البتة صواب غزو العراق، بل هو يدعو إلي مقاومة السردية الإحتفالية التي تشيع اليوم في واشنطن لأنها خاطئة وتؤدّي إلي نتائج معكوسة . وكيف للمرء أن لا يستعيد، هنا بالذات، تلك البلاغة الظافرة التي طفحت في خطبة باولا دوبريانسكي، مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية، التي تحدّثت ذات يوم عن ثورة وردية في جورجيا، و ثورة برتقالية في أوكرانيا، و ثورة أرجوانية في العراق، و ثورة الأرز في لبنان! دوبريانسكي، وفي مناسبة نشر التقرير السنوي حول أوضاع حقوق الإنسان لعام 2005، لم تتورّع عن خلط الحابل بالنابل حين انتقدت مستويات احترام حقوق الإنسان في روسيا وبيلاروسيا وكوبا والصين وكوريا الشمالية وبورما (مينامار، اليوم) ولاوس وفييتنام وزيمبابوي وإيران والسودان ومصر والأردن وسورية والسعودية… علي حدّ سواء!
كان مدهشاً أكثر أن يلوّح مايكل كوزاك، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، بفرض عقوبات إقتصادية علي بعض الدول، بينها السعودية و… الصين! ولقد ردّ علي أسئلة تناولت معتقل غوانتانامو وسجن أبو غريب ، وصمّ أذنيه تماماً عن أسئلة أخري دارت حول تصدير الإدارة عدداً من المعتقلين إلي دكتاتوريات شرق ـ أوسطية تتولّي التحقيق معهم بوسائل قذرة لا يبيحها الدستور الأمريكي. ولهذا فإنّ موضوع الصين تحديداً يظلّ الكاشف الأعظم لمعظم ما يكتنف الخطاب الأمريكي من نفاق حول مسائل حقوق الإنسان. ففي مطلع العام 2000 باتت الصين الأمّة الأكثر تفضيلاً في ميادين التجارة والتبادل ، بموجب تشريع خاصّ خرج من تحت قبّة الكابيتول. وكان الفوز بالثلاثة ، أو هكذا تقتضي الترجمة الأكثر تواضعاً لتعبير Win-Win-Win، هو الحصيلة التي اختارها الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون لوصف جملة البروتوكولات التجارية التي جري توقيعها مع الصين الشعبية أثناء زيارة الرئيس الصيني السابق جيانغ زيمن للولايات المتحدة.
بالثلاثة، أو بالضربة القاضية التي تُقاس بمليارات الدولارات، وبهبوط دراماتيكي في مؤشرات العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين الشعبية، والذي كان آنذاك قد قفز كثيراً لصالح هذه الأخيرة. ولم يكن بالأمر المألوف أن تنقلب تلك المعدّلات لصالح الولايات المتحدة بين زيارة وضحاها فقط، خصوصاً وأنّ المسألة تتصل بأمّة ليست كالأمم العادية: أعداد سكانها تُحسب بالمليارات وليس بالملايين كما هي حال الأمم، وموقعها الجغرافي يجعلها علي حدود مشتركة مع 15 دولة دفعة واحدة، واقتصادها ينفلت من عقاله يوماً بعد يوم ويستهلك الأعمال والأشغال، ومثل تنّين آسيوي أسطوري يسأل: هل من مزيد؟
وحين كتب بعض الفرسان في صحيفتَيْ واشنطن بوست و نيويورك تايمز ضدّ خلط التجارة بحقوق الإنسان، ردّ فيليب موراي كونديت، المدير التنفيذي لشركة بوينغ آنذاك: يا لمحاسن الصدف! لقد كنت في بكين حين عرضت أقنية التلفزة الأمريكية المشاهد الوحشية لاعتداء الشرطة الأمريكية علي المواطن الأمريكي (الأسود) رودني كنغ! للفرسان أنفسهم قال الرئيس الصيني: ولكن لماذا لا تعودون إلي تاريخ بلدكم أيها السادة؟ ما فعلناه في إقليم التيبت لم يكن سوي عملية تحرير للعبيد من نظام قنانة ينتمي إلي القرون الوسطي. أليس هذا بالضبط ما فعله رئيسكم أبراهام لنكولن ؟
ليس تماماً بالطبع، ولكن المقارنة لا تخلو من منطق براغماتي بارع يتوسّل المماثلة والمطابقة، في ضباب كثيف من المصـالح السياسية والإقتصادية التي تكتنف بيوت الزجاج!
ہ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
14/03/2008