اللاعقل يحكم الشرق الأوسط
ياسين الحاج صالح
على غرار الأزمات الدورية التي يفترض أن تعتري «نمط الإنتاج الرأسمالي» الكلاسيكي كل بضع سنوات، يعرض النظام الشرق أوسطي أزمة كبيرة أيضا كل نحو عقد من السنين. تحاول هذه المقالة تقصي بعض أصول هذه الخاصية.
تشكل الشرق الأوسط من الحل النهائي للمسألة الشرقية في نهاية الحرب العالمية الأولى، لكنه كان حيزا جغرافيا وليس نظاما إقليميا طوال الفترة الكولونيالية التي انطوت صفحتها في بضع السنوات التالية للحرب العالمية الثانية. ومع قيام إسرائيل وتولي الغرب المتقدم حمايتها أمنيا ومعنويا دخلت المنطقة في وضع لا شبيه له عالميا. ثمة دولة صغيرة، لكن منيعة، تكونت بتجربة طرد وتطهير ضد «السكان الأصليين»، تلقى دعما مطلقا من قبل الكتلة الدولية المتفوقة حضاريا وعسكريا وثقافيا (مهيمنة، وتحدد معنى القانون والعدالة في العالم)، وتسوغ نفسها جزئيا بعقيدة دينية تجعل من فلسطين «أرض إسرائيل». ومن جهة أخرى، ثمة محيط رافض لها، واسع لكنه ضعيف وسيء التدبير، يلقى إخفاقا مدويا تلو الآخر في مواجهة الكيان الصغير. وهنا، بالخصوص بعد عام 1967 (حيث ألحقت الهزيمة بفكرة «الوطن العربي» التي لم تكون لترضى بأقل من إزالة الواقعة الإسرائيلية)، وبتحديد أكبر بعد حرب 1973، تكون الشرق الأوسط كنظام إقليمي من نوع خاص، يعرض سمات صراعية بارزة لا تحول دون تفاهمات معلنة وضمنية بين أطرافه. ورغم افتقار النظام إلى مؤسسات ضابطة، إلا أن له مركزا مرجعيا هو الولايات المتحدة.
وينطبق «قانون الأزمات الدورية» على السنوات التالية لعام 1948، وربما لأسباب تشبه في أصولها أسباب الأزمات الدورية في الرأسمالية التنافسية. لكن بدل «التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج والملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج»، المسؤول عن الأزمات الدورية في الرأسمالية حسب «التحليل الأخير» الماركسي، ثمة هنا التعارض بين اتساع قاعدة النظام الشرق أوسطي البشرية وضيق دوائر صنع القرار فيه، أي لا ديمقراطيته العميقة.
على المستوى المحلي لدينا نخب حكم غير منتخبة، لا تمتنع فقط عن تقديم كشف حساب من أي نوع عن سياساتها أمام الجمهور المتأثر بقراراتها، وإنما هي تظهر حساسية عالية أمام ناخبها الحقيقي في «المركز المرجعي» للنظام. وفي قمة النظام شراكة قرار أميركية إسرائيلية، ليست غير مسؤولة فقط أمام من يتأثرون بقراراتها (العرب بصورة أساسية)، وإنما هي معادية لهم. فمن الأسرار المعلنة للنظام الشرق أوسطي أن المركز المرجعي، أي الطرف الذي يحتل الموقع المفترض للتحكيم، منحاز جذريا لأحد طرفي الصراع دون أن يواجه انحيازه هذا بغير تذمر خافت من الطرف الآخر. وهنا أصل لا يحجبه إلا فرط ظهوره من أصول أزمة النظام الشرق أوسطي المزمنة التي تتفجر أزمات حادة بين حين وآخر.
ومن وجهة النظر التي نصدر عنها، ليس «الصراع العربي الإسرائيلي» هو «أزمة الشرق الأوسط» على نحو ما كان يقال في ستينات القرن العشرين وسبعيناته؛ الأزمة بالأحرى افتقار النظام إلى مؤسسات تحكيمية مستقلة تحد من دكتاتوريته وإلى آليات إصلاح مجربة وفعالة تخفف من تطرفه ولاعقلانيته.
ونميل إلى الربط بين تمادي تطرف النظام واستبداديته وبين تحول مستوى الصراع من الدول (وهي عقلانية في الحد الأدنى) إلى منظمات ما دون الدولة، ومن الإيديولوجيات العصرية (العقلاني جزئيا بدورها) إلى الإيديولوجية الدينية. والأصل في ذلك أن النظام يمنع الدول المندرجة فيه من استكمال مقومات دوليتها، أي قدرتها على الدفاع عن نفسها واحتكار العنف المشروع في الداخل والخارج. والأصل الآخر منظمات ما دون الدولة أرشق من الدول والدين أطول بالا من إيديولوجيات تاريخية نافدة الصبر تكوينيا، وتاليا هما أفضل تأهيلا للاستمرار في صراع متعدد الجولات ومرشحا لطول العمر. وفي بضع السنوات الأخيرة أظهر الأميركيون رغبة في دمقرطة دول لم يكفوا عن إضعافها والحد من سيادتها. وهم بذلك يسجلون استمرارية عميقة تسبق تكون الشرق الأوسط نفسه. لقد نشأ هذا من معالجة «المسألة الشرقية» على النحو التالي: منذ مطالع القرن التاسع عشر كان الأوروبيون يطالبون السلطنة العثمانية بالإصلاح، دون أن يكفوا عن إضعافها وتقويض قدرتها على الإصلاح. في النهاية انهارت السلطنة وولد «الشرق الأوسط»، منطقةً تستبطن هذه السياسة المتناقضة في «بنيتها الوراثية». وبفعل ذلك، ظل تاريخ منطقتنا ينسج على منوال «التنظيمات» العثمانية حتى حين تحولت السيادة العليا في منطقتنا من الغرب الأوسط (الأوروبي) إلى الغرب الأقصى (الأميركي) في نصف القرن الأخير: الغرب المتمدن والديمقراطي يتصرف بطريقة تقوض فرص الديمقراطية والتمدن التي لا يكف عن الدعوة إليها.
هنا أصل الأزمات الشرق أوسطية الدورية التي يبدو أن إيقاعها يتسارع وحدتها تزيد بعد 11 أيلول 2001 بشهادة حربي 2003 و2006. وأصل التسارع هذا أن المستبد الأميركي هو الذي تخلى عن «العقد الشرق أوسطي» (تخضعون لنا مقابل حمايتنا لكم)، متحولا إلى سياسة أشد تطرفا: تخضعون لنا كيلا نحطمكم كما فعلنا بنظام صدام حسين في العراق. أي التحول من عقد حماية إلى عقد استعباد. ورغم تراجع الأميركيين عن هذه السياسة المتطرفة منذ ثلاث سنوات أو أربع، إلا أنه تراجع محدود وغير متسق من جهة، وجاء متأخرا جدا وبعد «وقوع الفأس في الرأس» من جهة ثانية.
لكن ماذا عن الأطراف العربية؟ يستقيم التحليل السابق تماما إذا اعتبرنا العرب غير مسؤولين، ولا تشكل خياراتهم فرقا في حسابات الشرق الأوسط. الغريب أن العرب الأكثر اعتراضا على المحور السيد في المنطقة يكتفون بتحميل المسؤولية لأعدائهم، حاذفين أي اعتبار أو زن لأنفسهم بالذات. والحال لعلهم على حق. فلم تستطع أطراف عربية أن تستمر في الصراع ضد تهميش العرب إلا بالتخلي التام عن قضية التقدم والحرية، التي يفترض أن شرعية صراعنا مستمدة منها. ففي النهاية لماذا يتعين مواجهة العدوانية الإسرائيلية والديكتاتورية الأميركية، إن لم يكن لكونهما قيدين على تحررنا ونهوضنا وارتقائنا الحضاري؟ وهل نقاوم تهميش الغريب لأنه غريب أم لأنه تهميش، أي لدوافع خاصة بالهوية أم بالتقدم والحرية؟ إجابة «مقاوماتنا» لا تحيل إلا إلى الهوية. والتهميش الذاتي.
وفي المحصلة استبطنت الأطراف العربية منطق الشرق أوسطية الاستعماري والتراتبي بدل أن تجسد التمرد عليه. في المحصلة أيضا تشكل نظمنا المحلية نسخا طبق الأصل عن النظام الشرق أوسطي. هذا تناقض إضافي في نسيج التناقضات الشرق أوسطية. وهو مساهمتنا «الأصيلة» في ترسيخ حكم اللاعقل.
خاص – صفحات سورية –