صفحات سورية

حماقة جديدة

أمين قمورية
الغارة العسكرية على مزرعة السكرية في البوكمال، رسالة اميركية صاخبة وواضحة لسوريا، كأن واشنطن تريد ان تقول فيها للسوريين: “لقد مللنا ألاعيبكم. اذا لم تغلقوا حدودكم في وجه الجهاديين الذين يعملون ضدنا في العراق فسنغلقها نحن بالقوة ولو كلفنا ذلك خرق سيادتكم. فلم يعد يجدي ان يختبئ نظامكم خلف ظهر “القاعدة” في العراق مثلما يختبئ خلف ظهر “حزب الله” في لبنان والقول نحن لسنا اشرارا، بل هم الاشرار… كفوا عن هذه الالاعيب فنحن لكم بالمرصاد”.
واشنطن مغتبطة بـ”النجاح” الذي حققته الغارة في الاراضي السورية، مع انه لم يظهر من ضحاياها حتى الآن سوى المدنيين العزل وبينهم عدد من الاطفال… وهذا لا يتعارض مع مقاييس النجاح الاميركية التي تقوم على قتل المدنيين “خطأ” على ان يلي ذلك اعتذار، وعلى اصابة الحلفاء بـ”نيران صديقة”. اسألوا عن ذلك الكتيبة الفرنسية في افغانستان!
المهم الا يكون “النجاح” الاميركي على الحدود السورية مثل النجاحات الاميركية داخل الاراضي الباكستانية على الحدود مع افغانستان، فتلك عززت قبضة “طالبان” ليس فقط في افغانستان بل ايضا في باكستان وجعلت باكستان امتدادا لافغانستان بدل ان يكون العكس. ليس هذا فحسب، بل سببت الاحراج لاصدقائها الباكستانيين وتكاد تطيح حكومة اسلام اباد المصنفة الحليفة الاولى في الحرب على الارهاب. ومن المفارقات انه في الوقت الذي كانت الطائرات الاميركية تشن غاراتها على سوريا، كان رئيس الوزراء الباكستاني يناشد دول العالم اجمع التدخل لدى واشنطن لوقف غاراتها على بلاده التي “دُعست” ما بين مطرقة الاميركيين وسندان الاسلاميين.
دمشق ليست اسلام اباد، ولا تصح المقارنة بينهما. فهي لم تصنف نفسها ابدا حليفة للولايات المتحدة، كما ان واشنطن لا تزال تتهمها علنا بدعم الارهاب وترفض فتح قنوات الحوار معها. من هنا فان الغارة الاميركية الجديدة والغارة الاسرائيلية التي سبقتها على منشأة دير الزور، تعطي دمشق صك براءة وتثبت موقعها كآخر الدول العربية المناهضة للاحتلالين الاميركي والاسرائيلي (او على الاقل هذا ما ستدعيه)، وترفع عنها ما يكيله لها خصومها من اتهامات بانها ابرمت سرا صفقة مع الاميركيين في العراق وتستعد لابرام صفقة كبرى مع اسرائيل على حساب اصدقائها خصوم اميركا في ايران ولبنان وفلسطين والعراق، وتاليا فانها تشرعن اي مفاوضات قد تقدم عليها من موقع المقاوم لا من موقع المساوم.
الى ذلك فان الطائرات الاميركية التي شنت الغارة انطلقت من الاراضي العراقية وليس من البوارج في البحر خارج المياه الاقليمية، وفي ذلك معان بالغة الحساسية في الوقت الذي يحتدم النقاش في بغداد وجوارها في شأن الاتفاق الامني العراقي – الاميركي.
فأحد ابرز مآخذ دول الجوار وقسم كبير من العراقيين هو ان بنوداً في مسودة الاتفاق تسمح للقوات الاميركية بجعل العراق قاعدة ومنصة لشن هجمات منه الى الخارج وتحديدا الى الدول المحيطة به وفي مقدمها سوريا وايران. ومن شأن هذه الغارة في هذا التوقيت بالذات ان تذكي المخاوف الاقليمية من الاتفاق وتغذيها، وتقدم الذرائع للدول الواقعة في دائرة الاستهداف من اجل العمل ضد الاتفاق واسقاطه، وخصوصا ان لمعظم هذه الدول ايدي وارجلا في العراق الجديد.
واذا كان الناطق باسم الحكومة العراقية سارع الى الاعراب عن امل  بغداد في الا يؤدي الحادث على الحدود الى تعكير “صفو” العلاقات بين سوريا والعراق، فان السلوك الاميركي لا بد ان يرتد الى الداخل العراقي اثناء احتدام الجدل في شأن الاتفاق. من هنا فان بعض المسؤولين العراقيين الذين ينتابهم اليوم هاجس ان يؤدي الاتفاق الى تعميق الانقسام الداخلي، سيضيف الحادث الثقيل الى هواجسهم عبء اعادة زج العراق في حروب اقليمية لا تزال ذكرياتها الاليمة عالقة في اذهانهم.
وهكذا تأتي الغارة الاميركية في سياقها “الطبيعي”، اي في اطار الحماقات التي اعتادت واشنطن ارتكابها في السنوات الاخيرة وأهدت بموجبها الى خصومها كل ما يحتاجون اليه من عطايا مجانية.
فلا عجب بعد كل غارة اميركية ان تتسع الثغر في الحدود.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى