عفوك جيش سورية.. أين أنت؟؟!!..
جلال/ عقاب يحيى
فيما مضى، ونحن صغار، تصورنا أن جيشنا عملاق بشجاعته، وإقدامه، وحبه للوطن، وقدراته في الدفاع عن ترابه المقدّس. وكانت صورة، وحكاية البطل الشاب (يوسف العظمة، وزير الدفاع)، الذي أبى أن يدنّس الجيش الفرنسي أرض سورية إلا على جثث تلك القلة المؤمنة التي واجهته في ميسلون وهي تدرك أنها ذاهبة إلى معركة مختلّة، لا توازن فيها، أي أنها قررت الشهادة ولا شيء غيرها لتحفر في التاريخ واحدة من الملاحم الخالدة الجديرة بالتخليد فعلاً، والتدريس كعنوان للفداء، والرجولة، وحب الأوطان.. فحقّ للعظمة ورفاقه الأبرار أن يكونوا راية خفّاقة أبداً..
في فتوتنا، وشبابنا المبكر، وجيشنا الوليد يقاتل عصابات الاستيطان الصهيوني، ويشارك كثيره في (جيش الإنقاذ) للدفاع عن فلسطين (قضية العرب المركز)، ثم في مواجهاته المتتالية للاعتداءات الصهيونية على طول جبهتنا المنيعة..
انتزع الجيش السوري مكانته الجليلة في قلوب وأبناء الشعب، كمدافع أمين عن التراب الوطني، وقضايا الأمة المصيرية، وحق لاندفاعاتنا احتضانه، والاعتزاز به، وربما: الحلم بقدرته على تحرير فلسطين التي كانت على جدول أعمال آمالنا العاطفية، ونحن نظن، والتعبئات توحي بذلك، أن زمن، وموعد التحرير قريب…
في حزيران 1967 كانت النكسة، الهزيمة، البلبلة، التشتت.. وكان احتلال تلك الجبهة الحصينة ومعها كامل الجولان وعاصمته القنيطرة في وضع ملتبس ما يزال يثير الحبر، والنقاش، والتداعيات.. لكنه لم يكن جيشنا المسؤول، وإنما القيادة التي خططت، وأعطت الأوامر، وطلبت منه الانسحاب الكيفي، ومجمل تلك القرارات المعروفة.. بتوقيع صريح من وزير الدفاع حافظ الأسد.. الذي سيترفّع، ثم يصبح (القائد المؤبّد، الحامل جميع الأوصاف والألقاب..)..
بين حزيران الهزيمة، وحرب تشرين.. تضخّم الجيش السوري عدداً ونوعيات، وأسلحة، وتطوراً مستمداً من الهزيمة ونتائجها، وبدا أنه الظهر القوي للعمل الفدائي الذي انطلق ردّاً وتعويضاً، والذي اتسع عمقاً وأفقاً ليجوب الوطن العربي، وساحات عالمية كثيرة، فتآمروا عليه باستغلال تجاوزاته وأخطائه، وتنوعه..
وعندما لاحت نذر المواجهة ـ التصفية، تحركت القيادة السورية واتخذت قراراً جريئاً: إرسال قطعات عسكرية إلى الأردن(ايلول1970) لحماية المقاومة الفلسطينية من الذبح والترحيل، رغم عنعنة وتردد (وزير الدفاع).. فدفع أصحاب القرار الثمن باهظاً، واعتلى الأسد ظهر (التصحيح.. الذي تصادف ذكراه أياماً من الآن)، وتساءل الكثير عن جوهر ذلك التصحيح، ومراميه، واكتشفوا مع الأيام كنهه، ومغزاه..(وتلك قصة أخرى طويلة).
في حرب رمضان / تشرين أول/ أكتوبر 1973، وحيثما أتيح للجندي العربي أن يظهر مدى صلابته وشجاعته، وأن يختبر مستوى تعاطيه مع السلاح الجديد، وإرادة القتال تحت حلم استعادة الأرض، وربما تحرير فلسطين..قاتل، وانتصر في المواقع، وضرب أمثلة خالدة في العبور، واحتلال مرصد جبل الشيخ، وذلك الاندفاع على الجبهتين السورية والمصرية.. ولم يكن بخلده أن تلك الحرب، والتضحيات، والبطولات.. وقود لاتفاقيات الفصل، والتفاوض، والسلام المنفرد مع ” إسرائيل”، في الجهة المصرية، وإغلاق الجبهة السورية بقوات دولية، وبقرار يمنع أي عمل فدائي أو عسكري منها..
*****
بين حرب تشرين، والغارة الأمريكية قبل يومين على منطقة السكرية في البوكمال.. تاريخ طويل يتوضّح فيه حجم الدمار والتخريب والتحويل والنخر الذي طال كافة خصائص، ومفاصل سورية الوطن، والدولة، وفي المقدم منها: حال الجيش العربي السوري، وموقعه، ودوره، ومهماته.. والأدوار التي أنيطت به في الداخل والجوار(من المدن السورية وحماة الذبيحة، إلى تل الزعتر والحرب على الثورة الفلسطينية المتحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية، وبقية(الحروب) في لبنان، إلى ” حفر الباطن” لمقاتلة الجيش العراقي وشعب العراق تحت القيادة الأمريكية… إلى هذا الموقف العجيب..في السكرية، وقبله، وقبله)!!..
لن أتحدث عن قصة” الجيش العقائدي” ومصرعها منذ عقود بنيران التسلط الفئوي، حين جرى اكتشاف أن تلك الفكرة الأحادية المستمدة من روحية الحزب القائد ـ الواحد، ومن نسغ العصبوية، والستالينية لم تؤد إلى (تبعيث) الجيش كما كان يأمل الداعين لها، وإنما إلى احتكاره من قبل مجموعات طائفية، مصلحية، لا همّ لها سوى حماية نظام استبدادي، أقلوي، إفسادي، ارتدادي، وتجميع الثروات، ونشر فكر الاستهلاك، والفوقية، والبلطجة، وإغراق الجيش في أمور بعيدة عن الهدف الرئيس الذي وجد من أجله: حماية التراب الوطني والدفاع عن حدود البلد (إن لم نذهب أبعد، في مهامه القومية التي طالما كانت له إسهامات فيها)، حيث ظهر، وللأسف، في عديد المواقع والامتحانات فاقداً للمبادرة، والقدرة على ممارسة الواجب المطلوب في التصدي لأي خرق يجري للسيادة الوطنية، حتى وإن اقتصر الأمر على بضع طلقات كلاشينكوف، وبعض قذائف المدفعية المضادة للطائرات التطفيشية..
ـ كما أنني لن أقف عند تلك المعزوفة التي راجت سنوات عن (التوازن الاستراتيجي) الذي انتظره من كان يدبّج الآمال على ذلك النظام فأنفق الكثير من الحبر، والخطابات، والوعود، والصخب، ثم طواها الزمن لصالح أخرى ابتدعها النظام العربي المتهاوي، المتسول، والمتوسل: “السلام خيار استرتيجي”، وإضافات النظام السوري “الإبداعية” عليها بـ”الممانعة” التي لا يدري أحد من هي في علم المصطلحات التي يهواها الرئيس الشاب، الوريث، ولا أين، ومتى، ولماذا؟.. ولا هذه المقولة (الشهية، الطريفة) عن حق الردّ، لكن: في المكان والزمان المناسبين!!..
ـ مرّ الزمان طويلاً، وتعددت أمكنة الاعتداءات المباشرة التي تمتهن السيادة، وأعتاها: تحويم الطائرات الإسرائيلية فوق القصر الرئاسي بتبجح إسرائيلي معلن، وضرب موقع(عين الصاحب)، وذلك الموقع الذي أثار الكثير من اللغط في عمق الأراضي السورية (قرب دير الزور).. والآن: أربع طائرات حوامة تضرب البوكمال، وتهبط اثنتان منها وتأخذ ما تريد، وتقتل من تقتل..ولا طلقة، ولا من يحزنون.. سوى(احتجاج) لا يقتل ذبابة، ولا يخيف برغشة..
ـ ترى هل المنطقة الشرقية خالية من وجود قوات لجيشنا؟.. هل هي (خارج التغطية) حتى تصول وتجول الطائرات الأمريكية ولا (من علم ولا من دريّ)؟؟.. وإذا كانت قطعات من جيشنا موجودة (وهي موجودة) فماذا تفعل؟.. هل كان الضباط يلعبون الطرنيب؟ أم يشربون المتي مع النارجيلة؟ أم أنهم كانوا في (مهمات) خارج المنطقة يقضون فيها مصالحهم؟؟.. أم أنه لا توجد أوامر عندهم بالتصدي لمن يخترق السيادة والحدود؟..
ـ أسئلة كثيرة يثيرها العدوان الأمريكي، وهي تتجاوز بحث طبيعة الهدف، أو ما يقال عن دور النظام في إرسال المقاتلين إلى العراق (وليته يفعل في إطار دعم المقاومة العراقية الباسلة، والتصدي للاحتلال الأمريكي وعملائه)، إلى أهلية النظام في الدفاع عن الوطن.. حيث هل يمكن لأي بلد في الدنيا أن يسمح بانتهاك حرماته ولا يتحرك، وهو يملك جيشاً كبيراً يستهلك الجزء الأكبر من الموازنة، ويضم مئات الألوف من الضباط وصفّ الضباط والجنود؟؟!!.. والذي يعرض النظام عضلاته به على الشعب السوري وقواه الحيّة، وعلى لبنان الشقيق؟..
إنها قضية مطروحة بكل جدّية، حيث أثبتت جميع الامتحانات أن هذا النظام لا يبحث في طرق الرد، وإنما في (سلع) المقايضة، وفي إيجاد الأوراق التي يقدمها لحماية عرشه، ومصالحه.. وهل من يكون كذلك جدير، وأمين على مصالح البلد وشعبه؟؟..
ـ نعم، و(الحركة التصحيحية) على أبواب العام التاسع والثلاثين.. تبرز البوكمال المصابة عيّنة لمصاب البلد برمته.. وحيدة تلملم قتلاها وتضمّد جراحها، بينما جراح الوطن نازفة، واليد على القلب من غد مجهول، طالما أن الأعداء يعربدون، والنظام لا همّ له سوى البحث عن إرضائهم (فوق وتحت الطاولة)..
تلك بعض إنجازات تلك الحركة.. بينما عيون وقلوب جميع الغيارى على وطنهم يتساءلون: أين أنت أيها الجيش العربي السوري؟؟؟…
كاتب وباحث سوري – الجزائر