لماذا معاقبة الشعب السوري رداً على عدوان أميركي؟
خيرالله خيرالله
أقل ما يمكن قوله في ضوء رد سورية على الاعتداء الأميركي الذي استهدف موقعاً داخل أراضيها، أن النظام أراد معاقبة السوريين بسبب ما ارتكبه الأميركيون. من يغلق مدرسة ومركزاً ثقافياً أميركياً في عاصمته يعاقب نفسه، خصوصاً أن السوريين في حاجة إلى مدارس محترمة، ومراكز ثقافية على تماس مع كل ما هو حضاري. اللهم إلا إذا كان المطلوب مزيداً من الغزو الإيراني للمجتمع السوري بغية نشر ثقافة الموت بديلاً عن ثقافة الحياة… وذلك بغض النظر عن الرأي في معظم السياسات الأميركية الخاطئة والظالمة في المنطقة. السياسة شيء والعلم والثقافة شيء آخر. من يمزج بين السياسة من جهة والعلم والثقافة من جهة أخرى، إنما يكون رد بشكل عشوائي على عدوان عسكري، غير آخذ في الاعتبار لعبة استخدام التطرف والإرهاب ضد الآخرين، لا يمكن إلا أن ترتد على من يمارسها عاجلاً أم آجلاً.
يبقى أن ما ميّز الاعتداء الأميركي الذي استهدف سورية، التوقيت الذي جاء فيه، إضافة بالطبع إلى المواقف العربية المائعة، أو حتى غياب المواقف التي تدين ما حصل. التوقيت مهم نظراً إلى أنه جاء لتذكير النظام السوري بأنه لا يستطيع اللعب في الوقت الضائع، وأن من الأفضل بالنسبة إليه أن يكون حذراً في كل تصرفاته. عليه أن يكون حذراً على غير صعيد، خصوصاً في ما يخص العراق ولبنان، وأن من المفترض ألا يعتمد على الأوهام ويتصرف انطلاقاً منها. على رأس الأوهام التي ترسخت في ذهن غير مسؤول سوري أن أكثرية اللبنانيين تقف مع النظام في دمشق، وأن حركة الرابع عشر من آذار ليست سوى أكثرية وهمية! واهم من لديه مثل هذه الأوهام، وواهم من يعتقد أن في الإمكان حشد قوات على الحدود مع لبنان كي يعيش اللبنانيون في ظل كابوس اسمه عودة نظام الوصاية، وكي يشعر يتامى الوصاية وأجهزتها الأمنية بأن التاريخ يمكن أن يكرر نفسه، وأن القوات السورية عائدة إلى وطن الأرز عاجلاً أم آجلاً… من أجل أن تلعب دمشق دور الآمر والناهي في الوطن الصغير.
كان مفيداً أن تدين الحكومة اللبنانية الاعتداء على الموقع السوري. وكان مفيداً أكثر أن يتضمن البيان الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء تذكيراً بأن لبنان يقف مع الدول الصغيرة، مثل الشقيقة سورية، عندما تتعرض لعدوان مصدره دولة كبيرة مثل الولايات المتحدة الأميركية. إنها إدانة في محلها، خصوصاً أن لبنان يرفض أن يلحق أي أذى بسورية، وهو حريص عليها وعلى الشعب السوري أكثر من حرصه على أي أمر آخر، باستثناء الحرية، والسيادة، والاستقلال، وصيغة العيش المشترك بين اللبنانيين والتمسك بالعروبة… الحقيقية طبعاً. لبنان ومن خلال تجربته مع سورية، تماماً كما كانت للكويت تجربة مع نظام صدّام حسين البعثي- العائلي، أو على الأصح العائلي- البعثي، يدرك قبل غيره معنى اعتداء دولة كبيرة على دولة صغيرة والظلم الناجم عن ذلك. لبنان يتضامن من هذا المنطلق مع سورية، علماً أن الظروف المحيطة بما حصل داخل الأراضي السورية في منطقة قريبة من الحدود العراقية لا تزال موضع أخذ ورد، ولا يزال مبكراً التكهن بما إذا كان الجانب السوري بريئاً أم لا، وأن ما أقدم عليه الأميركيون كان زوراً وبهتاناً و«عملاً إرهابياً» على حد تعبير وزير الخارجية السوري السيد وليد المعلم في لندن. لقد توعّد المعلم بالرد على العدوان الأميركي في حال «تكراره»، وهذا يعني أن النظام السوري لن يرد على العدوان الأخير وسيعتبره مسألة منتهية تتوقف عند إغلاق مدرسة ومركز ثقافي. ربما قال الوزير السوري ذلك من باب الحرص على العلاقات الأميركية -السورية التي يأمل في تحسينها في يوم من الأيام على حساب لبنان واللبنانيين طبعاً.
أبعد من الزاوية اللبنانية، يفترض النظر إلى الاعتداء الأميركي من زاوية أوسع. تتمثل هذه الزاوية في الدور الإقليمي لسورية، وشعور النظام فيها أن في استطاعته الاستفادة من الفراغ في الولايات المتحدة بسبب الانتخابات الرئاسية التي ستأتي بالمرشح الديموقراطي باراك أوباما، على الأرجح، إلى البيت الأبيض. مثل هذا الفراغ ليس قائماً. كل ما في الأمر أن النظام السوري لا يزال تحت المراقبة الشديدة والصارمة، وأن كل رهاناته على دور إقليمي يلعبه، يظن أنه معدّ له سلفا، ليست في محلها. عليه التنبه إلى أنه ما زال وضعه يراوح مكانه، وعليه ألا ينتظر مكافآت في أي مكان في المنطقة، خصوصاً في لبنان والعراق. عليه بكل بساطة، رأفة بالسوريين أولاً ألا يعتقد أن الانفتاح الفرنسي سيقوده إلى مكان ما في حال لم ينفّذ المطلوب منه حرفياً، أي تبادل العلاقات الديبلوماسية مع لبنان، ثم ترسيم الحدود بين البلدين، ومنع تهريب الأسلحة إلى لبنان لمصلحة كل من له علاقة بإثارة الغرائزالمذهبية، وكل أنواع التطرف والإرهاب بدءاً بميليشيا «حزب الله» الإيرانية… وانتهاءً بمن يدور في فلك «القاعدة»، وماشابه ذلك من عصابات إرهابية. أول ما تفعله العصابات الدائرة في فلك «القاعدة» هو الارتداد في أقرب فرصة وعند أول منعطف على من ساعدها وركب موجتها معتقداً أن في استطاعته استغلالها وتوظيفها في خدمة مصالحه.
هذه ليست مرحلة فراغ في المنطقة. ليس في الإمكان الرهان على الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل عن طريق تركيا، والتظاهر بتنفيذ القرار الرقم «1701» الصادر عن مجلس الأمن من أجل القول للعالم ان في استطاعة سورية تجاوز المرحلة الماضية، أي تجاوز المرحلة التي نجمت عن القرار المشؤوم بالتمديد للرئيس اللبناني إميل لحود في العام 2004، ثم اغتيال الرئيس رفيق الحريري في فبراير من العام 2005. كل ما هو مطروح أمام النظام السوري تنفيذ سلسلة من الشروط لا أكثر ولا أقل. إنها الشروط التي تستطيع سورية أن تتحول من خلالها إلى دولة طبيعية من دول المنطقة. دولة لا تعيش على الابتزاز وتصدير الأمن، في مفهومها، والذي يعتبره الآخرون تصديرا للإرهاب للأسف الشديد. لم تعد اللعبة السورية تنطلي على أحد. إنه أوان الاختيار. هل سورية دولة طبيعية أم لا، هل تريد العيش في أمان في محيطها أم تظن أنها تستطيع العيش من ثقافة الابتزاز، القائمة على تصدير الفوضى إلى خارج حدودها كي تبرر تصديرها الأمن للآخرين؟
جاء العدوان الأخير على الأراضي السورية، وهو عدوان بكل معنى الكلمة، ليؤكد الحاجة إلى التخلي عن الأوهام، أكان ذلك في لبنان أو العراق أو فلسطين. سورية دولة عادية عليها التصرف بطريقة طبيعية، أي عليها الانصراف قبل كل شيء إلى معالجة مشاكلها الداخلية بدل ممارسة لعبة الهروب إلى أمام في شكل مستمر. يبدو الرد على الأميركيين نموذجاً لاستمرار عملية الهروب إلى الأمام، ورفض طرح الأسئلة الحقيقية من نوع: لماذا تفويت كل هذه الفرص على الشعب السوري، لماذا المتاجرة باللبناني والفلسطيني والعراقي وكل من تقع اليد عليه، ورفع الشعارات الطنانة والفارغة وتصديقها، لماذا معاقبة الشعب السوري بسبب عدوان أميركي؟
– كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن
الرأي العام الكويتية