العدوان على سورية والعدوان على السوريين
د. عبدالوهاب الأفندي
(1) التقيت في نهاية الأسبوع الماضي في بيروت معارضاً سورياً حضر إلى العاصمة اللبنانية من المنفى للمشاركة في مؤتمر أكاديمي، وهي مخاطرة كبيرة منه حتى في هذه الأيام التي انحسر فيها نفوذ دمشق عن بيروت. ولكن الرجل لم يسلم مع ذلك من العقوبات الرسمية، حيث منعت السلطات السورية أفراد أسرته من الحضور إلى بيروت للالتقاء به.
(2)
وفي يوم الأربعاء الماضي أصدرت محكمة ‘الجنايات الأولى’ في دمشق حكماً بسجن 12 قيادياً في المجلس الوطني لإعلان دمشق لمدة سنتين ونصف (خفض القاضي الحكم المبدئي بالسجن ست سنوات) بعد إدانتهم بتهم ‘إضعاف الشعور القومي’، و’نشر اخبار كاذبة من شأنها ان توهن نفسية الأمة واضعاف الشعور القومي وايقاظ النعرات العنصرية والمذهبية والانتساب إلى جمعية سرية بقصد قلب كيان الدولة السياسي والاقتصادي’. واشتمل الحكم أيضاً على تجريد الملاحقين من حقوقهم المدنية (ولا ندري المقصود هنا كون المحاكمة نفسها تؤكد أن كل السوريين محرومون أصلاً من كل حق مدني).
(3)
وكان المجلس الوطني لإعلان دمشق أُسس في أيلول/سبتمبر 2007 عطفاً على إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي الصادر في تشرين الأول/أكتوبر 2005. وقد اعتقل المتهمون الاثنا عشر في التاسع من أيلول/سبتمبر 2007، من قبل مخابرات أمن الدولة السورية ضمن أربعين عضوا من أعضاء المجلس، ووجهت لهم في الثامن والعشرين من كانون الثاني/يناير 2008 التهم التي أدينوا بموجبها.
(4)
في اليوم التالي للحكم شهدت دمشق مظاهرة نظمتها الدولة للاحتجاج على القصف الأمريكي لمنطقة البوكمال الحدودية ومقتل ثمانية أشخاص في تلك الغارة التي وصفتها دمشق محقة بأنها كانت عملاً إرهابياً. ولا شك أن التظاهرة السورية كانت تكون أوقع لو أن السوريين كانوا أحراراً بعض الشيء في تنظيم أنفسهم والتعبير عن آرائهم حتى يفهم أن من خرجوا للتظاهر يعبرون بحق عن غضب شعبي ضد الهجوم.
(5)
ليست المظاهرات على كل حال مما يردع العدوان، ولا الإدانات العربية الخافتة والخجولة. ولكنا كنا نود أن يعطينا النظام السوري أسبوعاً واحداً لكي نعبر عن تضامننا معه ضد العدوان الأمريكي دون أن نكون بذلك مشاركين في عدوان على الشعب السوري من نوع الانتهاكات التي مثلتها المحاكمات وحرمان الأسر من التلاقي نكاية ببعض أفرادها.
(6)
هناك جدل ظل يدور في أوساط أهل الرأي في العالم العربي منذ أيام السلطان عبدالحميد حول أولويات العمل السياسي، وهل الأولى أن يتضامن الناس مع الأنظمة القمعية ضد العدوان الأجنبي رغم أن عدوانها على الأمة لا يقل شراسة، أم أن الأولى تغيير الأنظمة؟ وقد فرق الخلاف حول هذا الأمر حتى بين الأصدقاء، كما رأينا من تباين موقفي الشيخ رشيد رضا مع صديقه الأمير شكيب أرسلان، حيث وقف الثاني مع الدولة العثمانية في حربها مع الحلفاء بينما أيد الثاني الثورة العربية لتحرير العرب من طغيان الترك.
(7)
رضا لم يتخذ موقفه ذاك إلا بعد أن كابد العرب الأمرين وهم يجاهدون للالتقاء مع القادة الأتراك في منتصف الطريق، ويطالبون بإصلاحات متواضعة مثل الحكم الذاتي والتمثيل البرلماني وغيرها من المطالب المعقولة. والدروس التي تلقتها الأمة منذ أيام العثمانيين إلى اليوم هي أن الأنظمة القمعية لا يمكنها أن تحرر وطناً أو تحافظ على استقلاله. فعندما يجد الجد، تسارع مثل هذه الأنظمة إلى عقد صفقات مع أعداء الأمة وراء ظهرها مقابل البقاء في الحكم، وتبيع مصالح الشعوب بثمن بخس. وقد رأينا ذلك في كل الأقطار العربية تقريباً، حتى تلك التي كانت أكثرها تشدقاً بالنضال وأعلاها صوتاً في تخوين المقصرين في ‘الصمود والتصدي’.
(8)
ليست دمشق استثناءً، وإن كانت آخر العواصم العربية التي لا تزال تحافظ على قدر معقول من الحياء. أما السؤال الذي نطرحه فهو أي الأمرين يضعف الشعور القومي ويوقظ النعرات العنصرية والطائفية: أفعال الحكومات التي تمارس القهر والإقصاء وتكميم الأفواه، أم نشاط من يريدون إيقاظ الشعب وندبه لممارسة حقه في التنظيم والتعبئة والمشاركة في الشأن العام والدفاع عن البلاد وشعبها؟
(9)
الذي نتمناه هو أن تبدأ حكومة دمشق بعقد مفاوضات سرية مع الشعب السوري أسوة بتلك التي ظلت تعقدها مع إسرائيل في أكثر من عاصمة. وهو طلب نوجهه أيضاً لكل تلك الأنظمة التي ظلت تعقد المفاوضات السرية مع إسرائيل أو المخابرات الأمريكية حتى تتهرب من التفاوض مع ممثلي شعوبها. ولا مانع عندنا من أن نكون وسطاء في هذا الحوار، أسوة بإخوتنا الأتراك وأحبابنا الأمريكان وأشقائنا النرويجيين والفرنسيين.
القدس العربي