ما يتوارى خلف قمةٍ موعودة
عماد شيحة
بين ليلةٍ وضحاها، تضاءل الحديث عن الأزمات المحلية التي سبقت القمة وواكبت انتظار انعقادها، واتسع فضاء ما يحيط بها من مآزق إقليمية، وربما دولية! فالاستراتيجيات المتماسكة تلقي بثقلها على الاستراتيجيات الهشة وتوترها إلى أقصى الحدود، دافعةً إياها إلى إعادة التشكل وفق مصالحها، أو التنحي. في هذا الشرق الأوسط العتيد، ثمة عدة استراتيجيات تعمل جميعها على تهميش استراتيجيةٍ رخوة التشكل والنمو، وإزاحتها: استراتيجية دولية مهيمنة تتوازع خلط أوراقها أوروبا والولايات المتحدة على طاولة إسرائيل، واستراتيجيتان إقليميتان فاعلتان، إحداهما تركية الهوية والتطلع والأخرى إيرانية الهوية والطموح. لطالما أحسنت تلكما الاستراتيجيتان إدارة تناقضاتهما بين بعضيهما وفي ما بينهما وبين القوى الفاعلة على المسرح الدولي، من مؤتمر فرساي إلى قمة ريكيافيك، مروراً بمؤتمر يالطا، ارتدت إحداهما منذ عقودٍ ثلاثة جلباب إسلامٍ سياسي صريحٍ الى حدّ الفجاجة، وتحاول ثانيتهما إسباغ إسلامٍ سياسيٍ معصرن على تخارجها الخجول عن جلدها العلماني. ولكلتيهما تاريخٌ طويل من الصراع والتناحر اختلط فيه العرقي بالمذهبي، خاضتاه أساساً على أرضٍ لم يتح لساكنيها التمترس وراء مشروعٍ اتخذ صبغةً قوميةً في القرنين الأخيرين.
ثمة ما يثير الاستغراب في إقصاء إيران وتركيا المعاصرتين عن مشاريع التجزئة والتقسيم التي اجتاحت المنطقة، إذ حافظت الأولى على وحدة جغرافيتها رغم عهود الاستعمار، أما الثانية فأبقت لها القوى العظمى جغرافيتها بكامل مجالها الحيوي بعدما تقاسمت تركة سلفها المريض فضلاً عن جائزة الترضية المتمثلة جغرافياً بالأراضي الواقعة إلى جنوبها، وحيوياً بوصول مجالها إلى قبرص التركية شبه المنفصلة. لكن الأمر الطبيعي أن يكون ميدان صراعهما عرضةً لشتى أشكال التقسيم والشرذمة.
لا تؤول المسألة هنا إلى دفاع أحدهم عن البوابة الشرقية أو الغربية أو الشمالية أو الجنوبية، فجنون العظمة يتخذ أعراضاً مرضيةً مختلفة. لكنّ الجنون الخالص يتمثل في إبعاد ما يتوجب إدراجه على جدول أعمال القمة. فحين يتخذ الصراع سمة التنافس على مدّ جسور الهواء فوق حدودٍ يصرّ الجميع على بقائها كما هي، يتنحى العمل على حلّ الأزمات جانباً ويحل محله استخدامها أوراقاً في لعبة شدّ الحبال و/أو العض على الأصابع.
هكذا تترك للأقدار أزمة لبنان ببرميل بارودها الذي ينتظر عود ثقاب، وكذلك «محرقة» الفلسطينيين في سلطتيهم غزة والضفة، وصراع بقائهم أو هلاكهم الذي يخوضونه أو يُكرهون على خوضه، ناهيك عن العراق الذي اختفى خلف دماره واحترابه واحتلاله. ما الذي تبقى؟ الصومال… السودان… موريتانيا… نزاع الصحراء!
يتساءل العاقل عما تسعى إليه القمة إن غابت عن جدول أعمالها المتوقع هذه القضايا. هل ستبحث مشروع الشرق الأوسط الجديد فتجد لنفسها موطئ قدمٍ، يقتطع لها حصةً، إلى جانب فاعليه الثلاثة الكبار؟! أي تعويلٍ يعول عليها، وأية قراراتٍ ستتخذ، وأين يكون مآلها؟
استحضار التاريخ واسترجاع تفاصيله شرٌّ لا بدّ منه. القمة التأسيسية، التي لم تضم بين ظهرانيها إلا دولةً وحيدة لم تخضع لاستعمارٍ مباشر، ألهبت مشاعر الجموع الشعبية ونزوعها للتحرر والتوحد. تماثلت وقتها أمزجة المثقفين وعامة الناس وتواصل ذلك مع قمم التعبئة القومية وصولاً إلى قمة لاءات النكسة، ثم تنافرت. كفر المثقفون على أعقاب الهزيمة وتأخّر عامة الناس عنهم حتى مسّتهم عاصفة الصحراء وتوابعها فكفروا أيضاً أو كاد معظمهم.
صارت القمم المعاصرة خارج اهتماماتهم وهمومهم فنأوا عنها مكتفين بلسع نيران ما يشاهدونه على شاشات الفضائيات والأرضيات. وفي المقابل، أضحت شاغل المثقفين ومؤرقهم، كلٌّ حسب رؤاه وتوجهاته. أليس ثمة ما يريب في ذلك كله؟
منذ تأسيسه، عمل النظام العربي، ممثلاً بجامعته وقممها، على إفراغ نفسه من محتواه. لم تثنه حتى مرحلة المد القومي، وكان شاغله الأساسي ترسيخ استقلال أعضائه وعزل شعوبهم وحكوماتهم، وصهرهم بالحدود التي تحتويهم، كل ذلك بذريعة العروبة، التي انحدر بها التاريخ ذاته من طموح الوحدة إلى التضامن إلى العمل المشترك. كما عمل هذا النظام على إدارة نزاعاتهم وتنافسهم على الزعامة، والمشاركة في إخضاع شعوبهم.
لكنه غدا اليوم دون معنى، بعد أن فقَدَ وظيفته وانتهى دوره في إقناع شعوبه التي اعترفت أخيراً بعدم أهليتها لإقامة وحدةٍ أو مجرد اتحادٍ وسلّمت بعدم قدرتها على تحقيق تعاونٍ اقتصادي أو تقني على المستوى الإقليمي، بل إنها قدّمت استقالتها منه.
يوحي الزخم الذي يواكب القمة الأخيرة بأنّ ما سيتمخض عنها سيفوق كل التوقعات. ثمة من يحكي عن مفصلٍ تاريخي: العرب قبل قمة دمشق والعرب بعدها! وثمة من يقول غير ذلك، لكنّ المؤكّد أنّه لن يكون بوسعها حلّ أيٍّ من المعضلات والأزمات التي تعترضها وتعارض بها وجودها.
أياً كان دور فلسطين ما قبل النكبة وما بعدها في كل ما حدث ويحدث للنظام العربي، فإنّ مذابحها الحالية قد تقدّم العلاج الناجع له… إعلان رسمي لوفاة سريرية محققة. أيّ لغوٍ هذا، وأي عملٍ جليل؟
الحياة – 23/03/08