قمة دمشق: سيناريو لترسيخ الانقسام؟
وحيد عبد المجيد
سيذهب المعتدلون العرب إلى قمة دمشق بعد أيام ليس اقتناعاً بجدواها، بل سعياً إلى عدم ترسيخ انقسام يبدد ما قد يكون باقياً من أمل قليل في تجنب حرب جديدة في المنطقة، انطلاقاً من لبنان أو غزة أو ربطاً بينهما.
كانت الدول العربية التي توصف بأنها معتدلة، أو قل معظمها، ترغب في تسوية ما لأزمة الرئاسة اللبنانية تسبق القمة وتوفر أجواء أفضل لمعالجة القضايا القابلة للانفجار. ومع ذلك ستكون هذه الدول حاضرة، بالرغم من أن بعضها لا يرى فى تسلم سورية رئاسة العمل العربي المشترك، حتى لو كان عنواناً بلا مضمون، فألاً حسناً. ستحضر الدول المعتدلة بمستويات تمثيل مختلفة. وقد يشارك الرئيس حسنى مبارك، الذي سبق أن ربط نجاح القمة صراحة بانتخاب الرئيس اللبناني التوافقي، الجلسة الافتتاحية ويغادر بعدها.
غير أن نجاح المسعى الذي يهدف إلى تجنب تكريس الانقسام العربي إنما يتوقف على الطريقة التي ستتعاطى بها سورية بالرغم من عدم انتخاب الرئيس اللبناني والأسلوب غير اللائق الذي اتبعته في توجيه الدعوة إلى بيروت. فهل تعتبر هذا الحضور رسالة إيجابية تجاهها فترد عليها بالمثل على نحو يساهم في تفتيت الانقسام، أم تفسره باعتباره تراجعاً من جانبهم وبالتالي انتصاراً لها بما يؤدي إلى ترسيخ الانقسام؟
فأخطر ما يمكن أن يترتب أن تعتبر سورية حضور المعتدلين بتمثيل لن يكون منخفضاً جداً في الأغلب هزيمة لهم، وهي التي كانت مستعدة لاستضافة القمة « بمن يحضر». والأكثر خطرا أن تضع حضور المعتدلين في إطار البشرى التي حملها إليها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد عندما نزل في دمشق في تموز (يوليو) الماضي مبشّراً بما أسماه شهوراً ساخنة وانتصارات متتالية.
وإذا تصرفت سورية، بهدى من توقعات نجاد ووضعت المعتدلين ضمن «الأعداء» الذين بشر بأنهم «في طريق الزوال»، فهى تهدر الفرصة التي قد تكون الأخيرة لحوار عربي جاد، وتضع المنطقة على طريق انفجار أو تفجير. وعندئذ سيكون ترسيخ الانقسام العربي هو أهم نتائج قمة دمشق، إن لم يكن النتيجة العملية الملموسة الوحيدة. وستكون مفارقة تاريخية أن دمشق، التي نشأت أجيال على أنها قلعة العروبة، تستضيف قمة عربية للمرة الأولى في اللحظة التي تعتزم فيها حسم خيارها نهائياً لمصلحة محور إقليمي بقيادة غير عربية.
ولذلك، قد تكون قمة دمشق مفصلية في تاريخ النظام العربي إذا أدت إلى ترسيخ انقسام يزيل آخر ما بقى من حدود بين هذا النظام والإطار الإقليمي الأوسع. وهي الحدود التي سعى العروبيون عموماً، وليس فقط «القوميون العرب» طويلاً إلى تأكيد وجودها وأن تفرقت بهم السبل اقتراباً من العقل أو نأياً عنه.
فالانقسام الذي نحن بصدده هو شرق أوسطي، أكثر منه عربيا، إذ تقود إيران محورا راديكاليا عربيا صغيراً ولكنه يمسك بتلابيب المنطقة من حيث أن أطرافه الأدنى من الدول (حزب الله وحماس خاصة) تمتلك القدرة على تفجير المنطقة في أية لحظة. وهذا ما يجعله انقساماً بالغ الخطر حتى إذا افتقد شرطاً رئيسيا من الشروط الكلاسيكية للانقسامات المنتجة لأزمات إقليمية كبرى قد تنشب بسببها حروب، وهو الاستقطاب الحاد بين محورين. فالانقسام الحاصل الآن بين فريقين: أولهما راديكالي يضم بالأساس دولتين (سورية وإيران) ومنظمتين تمثل إحداهما مع أنصارها ما يشبه دولة داخل الدولة، وتسيطر الثانية على ما يشبه الإمارة. أما الثاني فأبعد ما يكون عن المحور أو التحالف الاستراتيجي، إذ يبدو أقرب إلى تيار عام يضم طيفاً واسعاً من دول، ومعها قوى رئيسية فى لبنان وفلسطين تجمعها علاقات تنسيق متفاوتة وتفصل بينها خلافات متنوعة، ولا يمكن اعتباره تحالفاً بأي حال. ولذلك أخفقت بسرعة محاولة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في أواخر 2006 لبناء ما أسمته «محور الاعتدال» أو (6+2+1) أي دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن، ومعها الولايات المتحدة.
وإذا كانت مصر والسعودية حرصتا على إفراغ فكرة «محور الاعتدال» من أي مضمون لها يجعلها أداة للمشروع الأميركي، فلم يكن لهذه الفكرة أساس في الواقع الموضوعي لسبب جوهري لا يمكن إغفاله حين تحاول استشراف ما قد تكون عليه صورة الانقسام العربي – الإقليمي إذا تعاملت سورية مع القمة كما لو أنها حققت انتصاراً على المعتدلين العرب.
فالدول العربية المعتدلة، على ما يجمعها من اتجاه عام، تتفاوت في مواقفها حتى تجاه أطراف المحور الراديكالي. ولنقارن مثلاً مواقف كل من مصر والسعودية والأردن تجاه سورية وإيران. ففي الوقت الذي قطع الأردن شوطاً بعيداً في تحسين علاقاته مع سورية، وتحفظت قيادته من البداية على أفكار تداولتها القاهرة والرياض في شأن توقيت قمة دمشق أو مكانها، حدث تباعد شديد بين السعودية وسورية، فيما حرصت القاهرة على أن تبقى جسراً مفتوحاً مع دمشق لتبادل الرسائل حتى إذا كانت بروتوكولية وأخرها التهنئة التي أرسلها مبارك إلى بشار الأسد قبل أيام في ذكرى «ثورة 8 آذار».
ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى مواقف الدول العربية المعتدلة الثلاث تجاه إيران. ففي الوقت الذي تحرص السعودية على مد جسور معها، تتردد مصر كثيراً بل تقاوم التحرك الإيراني المتزايد في الشهور الأخيرة للتقارب معها، فيما يحتفظ الأردن بأكثر المواقف العربية حدة ضد طهران في اللحظة الراهنة. وعندما اتهم الملك عبد الله الثاني، خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن قبل أيام، إيران «باختطاف الفصائل الفلسطينية واستخدامها إلى جانب حزب الله في فرض نفوذها الإقليمي»، كان يعبر عن اتجاه ثابت حتى الآن في السياسة الأردنية.
كما أن الأردن، الذي بات اقرب إلى سورية من مصر والسعودية، متهم من جانب جهات إيرانية نافذة بالتآمر مع واشنطن. لذلك، كان من الطبيعي أن تتباين مواقف الدول المعتدلة منذ وقت مبكر في شأن المشاركة في قمة دمشق. فعندما كانت مصر تحاول استثمار حاجة سورية إلى قمة ناجحة للضغط عليها، تطوع بعض هذه الدول بإعلان حضوره على مستوى القمة. وعندما حل موعد الاجتماع الأخير لمجلس التعاون الخليجي، كانت الكويت قد استبقته بتحديد مستوى تمثيلها في دمشق، عندما أبلغ رئيس وزرائها الرئيس السوري بأن الشيخ صباح الأحمد الجابر سيرأس وفد بلاده إلى القمة. كما أن زيارة العاهل الأردني الأخيرة إلى شرم الشيخ استهدفت، في المقام الأول، إقناع مصر بضرورة انعقاد القمة في مكانها وزمانها.
ولكن بمقدار ما قد تساهم سيولة تيار الاعتدال في الحد من ترسيخ الانقسام، فهي قد تؤدي إلى تمزيق النظام العربي الرسمي وبالتالي تكريس انقسام إقليمي شرق أوسطي عميق إذا وجدت فيها سورية ما يحفز على سياسة أكثر هجومية ضد بعض الدول المعتدلة بعد القمة. فإذا فسرت دمشق حضور المعتدلين باعتباره انتصاراً لها، فمن السهل أن ننظر إلى تفاوت مواقفهم بوصفه فرصة تتيح لها التصعيد ضد بعضهم من دون أن تدفع ثمناً كبيراً كذلك الذي يمكن أن تحسب حساباً له لو أن ثمة محوراً معتدلاً متماسكا على نسق المحور الراديكالي.
كما أن حال المعتدلين العرب قد تغري إيران بمد نفوذها إلى دول عربية أخرى على نحو ما قد ينطوي عليها تحركها تجاه السودان في الأسابيع الأخيرة، وصولاً إلى توقيع اتفاق للتعاون العسكري في مطلع الشهر الجاري. لذلك إذا كان من درس يصح أن يستخلصه المعتدلون العرب من التحضيرات لقمة دمشق والتفاعلات المحيطة بها، وصولاً إلى ما سيحدث فيها، فهو أن افتقادهم إلى مشروع لمستقبل المنطقة أتاح للمحور الراديكالي امتلاك زمام المبادرة على نحو يجعل مصير المنطقة متوقفاً على المدى الذي ستبلغه هجومية المحور الراديكالي.
الحياة – 23/03/08