الحراك السعودي المصري الأميركي
سليمان تقي الدين
تصرّفت المملكة العربية السعودية بعد الاحتلال الأميركي للعراق وكأن زعامة العالم العربي يجب أن تنتقل إليها. لقد سقط النظام القوي الثاني بعد مصر وهو يحمل إيديولوجية قومية راديكالية، ودور سوريا الإقليمي بات رهن الغطاء الشرعي العربي. عزز هذه القناعة لدى المملكة خروج سوريا من لبنان بقرار دولي وبدا لفترة من الزمن أن الحصار الغربي لسوريا وإيران يفقدهما الدور الفاعل. راهنت المملكة على أن يكون لها الدور المقرر في مستقبل العراق ولبنان وفلسطين.
المغرب العربي منكفئ على مشكلاته الخاصة، فقد آل حصار ليبيا إلى إخراجها من المعادلة العربية والصراع الدموي الجزائري أخرج الجزائر أيضاً من المعادلة.
أما مصر فلم تستعد دورها القومي منذ اتفاق كامب ديفيد وارتباطها الوثيق بالسياسة الأميركية. والمملكة هي الطرف القائد لمجلس التعاون الخليجي. لكن السياسة الأميركية في المنطقة لم تساعد المملكة على استثمار هذا المناخ. فقد صار تفكيك العراق والعبث ببنيته الوطنية منذ قرار حل الجيش وإباحة الفوضى سبباً لمداخلات إقليمية في ميادين العنف المسلح والحركات الجماهيرية التي ليس للمملكة فيها الباع الطويل. وفي فلسطين كانت سياسات شارون قد استظلت الاندفاعة الأميركية لتعميق بعض الإنجازات والمكاسب على الأرض خلافاً لكل الاتفاقات السابقة، ولا سيما أوسلو وخارطة الطريق وتينيت، فتوسعت المستوطنات واستمر جدار الفصل والحصار على غزة وحرب الاغتيالات، ما زاد من رقعة الخلاف بين الخيارات الفلسطينية المختلفة وأفشل كل محاولات الاستيعاب التي سعت إليها المملكة بما في ذلك اتفاق مكة.
أما لبنان فقد استخدمته أميركا ساحة لاستئناف هجومها على المنطقة وجعلت من الأكثرية النيابية أداة لممارسة الضغوط على سوريا ومحاصرتها ولمحاصرة »حزب الله« وتعطيل النفوذ السوري والإيراني، وحين فشلت الحملة السياسية انطلقت حرب تموز لتأدية المهمة وكان فشلها السياسي المفصل الخطير الذي عكس اتجاهات الريح في المنطقة.
كل هذه الإخفاقات الأميركية انعكست سلباً على الدور السعودي فدفعت به إلى التورط المباشر في رعاية بعض الجماعات السياسية مثل »الصحوة الإسلامية« في العراق إلى بعض الحركات السلفية في لبنان، وطبعاً إلى المعارضة السورية في الخارج. لكن المسار التراجعي للأميركيين بلغ مستويات متقدمة حتى على المستوى الإقليمي، من انحسار السيطرة الأميركية في أفغانستان إلى تصدع النظام الباكستاني الحليف الأساسي في منظومة الأمن الآسيوي، فضلاً عن اتساع المعارضة الدولية لمجمل المشروع الأميركي. هكذا أمكن أن تستعيد سوريا دورها الفاعل في معالجة الأزمة اللبنانية بموافقة دولية تولت فرنسا إدارتها. فقدت المملكة وحلفاؤها عنصر المبادرة وتراجعت قدرتها على احتواء الوضع اللبناني وخسرت بعد طول مكابرة جزءاً أساسياً من السلطة الرسمية التي كانت ركيزة نفوذها ودورها وتحولت إلى فريق في النزاع الإقليمي عطّل قدرتها على لعب دور في الوصول إلى تسوية داخلية كما كان لها من قبل.
في هذا السياق يأتي الدور المصري وكيلاً عن الدور السعودي لترميم العلاقات السياسية التي جرى تخريبها من قبل ما سُمّي محور »الاعتدال العربي«. ولقد صار ضرورياً أن يعبر هذا الدور من خلال الاعتراف بالمعارضة »السنية« بصورة أساسية فضلاً عن المعارضة في باقي المجموعات الطائفية والخروج من دائرة التعاطي الحصري مع »تيار المستقبل« وحلفائه. في هذا الجو حصل اللقاء السياسي المفصلي بين زعيمي »حزب الله« و»تيار المستقبل« ونشطت حركة الاتصالات المصرية مع فرقاء المعارضة لتطبيع العلاقات العربية اللبنانية. فمن المؤكد أن الانتخابات النيابية المقبلة ستفقد الأكثرية النيابية الحالية أكثريتها وستجبر كل المتعاطين بالشأن اللبناني على القبول بشراكة وفاعلية أطراف كانوا في خانة العزل والحصار.
لن يغيّر من هذه الوجهة أن تُغير طائرات أميركية على قرية حدودية سورية بحجة ضرب مركز لإمداد المقاتلين في العراق. في حقيقة الأمر تعكس هذه العملية الضيق الأميركي من النشاط الإيراني السوري الذي يعرقل المخارج التي تسعى إليها أميركا في العراق، ولا سيما المعاهدة الأمنية التي تلقى معارضة من أطراف قريبة من طهران ودمشق. تشبه هذه العملية العسكرية ما يحصل بانتظام مؤخراً على جبهة باكستان ـ أفغانستان. لقد تحوّلت الحدود الباكستانية إلى سند رئيسي للمقاومة الأفغانية وتراجعت قبضة النظام الباكستاني عن ضبط القوى المناهضة للاحتلال الأميركي. قد توحي الضربات العسكرية بأن لدى الولايات المتحدة خيارات عسكرية رغم فشلها وأزمتها في الداخل والخارج، لكن المسار العام سيجبرها على فتح أبواب التفاوض والتسويات مع انطلاقة الإدارة الجديدة. تبدأ التسويات بواسطة الوسطاء. تحرّك الولايات المتحدة الآن أصدقاءها في كل الاتجاهات بما في ذلك للحوار مع »طالبان« في أفغانستان و»حماس« في فلسطين والمعارضة في لبنان، وغداً ستضطر للتعامل المباشر مع إيران وسوريا. إنه المشهد المألوف دائماً في سياسة التشدد الأميركي والانقلاب إلى التعاطي الواقعي مع الملفات.
السفير