الحياة على أنها نص نكتبه
عمر قدور
على الأرجح أن كلاّ منا قد سمع تعليقات من نوع: “هذا يحدث في الأفلام أو في الروايات، لكن الواقع شيء مختلف”. ومن السهل أن نستذكر المقولات التي تضع المبدع في موقع الهائم المبتعد عن الأرض، وغالباً موقع الذي يعيش في نفسه وحسب، وعلى هذا يتم التسامح مع الكتّاب والفنانين بعدّهم أناساً غير طبيعيين.
استوقفتني مؤخراً عبارة من هذا القبيل لإحدى الكاتبات، في معرض حديث عن السلوك الشخصي، إذ قالت: هذا يصحّ في الأدب ولا يصحّ في الحياة. تساءلتُ حينها: إذن لماذا نكتب إن كنا لا نستطيع التعاطي مع الحياة على أنها نصّ؟ ويحضرني الآن تساؤل ثانٍ: لماذا نكتب إن كنا لا نكتب أنفسنا؟
لست بصدد لوم صديقتي الكاتبة على صراحتها، بل إنني أقرب إلى تحية الكثير من الكاتبات على ما يُبدين من جرأة في الكتابة غير متاحة لهن في الواقع، مع أن بعض هذه الكتابات يأخذ منحى تبشيرياً لا نقدياً. على نحو خاص تبدو بعض الكتابات النسوية كتابة واقعية للذات، من حيث توفر الرغبات والتطلعات وبقائهما مع وقف التنفيذ، أو التنفيذ سرّاً. أما في الجوهر فإن الإشكالية ذاتها تبقى ماثلة في الكتابات الذكورية “التنويرية”، فتكاد هذه الكتابات أن تتحول إلى حقل منفصل تماماً عمّا هو اجتماعي، ليس لجهة غياب فعاليتها في المجتمع عموماً، وإنما لغياب فعاليتها لدى المثقفين أنفسهم. سبق أن استدعت هذه الإشكالية التساؤل عن جدوى الكتابة على صعيد التغيير الاجتماعي، وقد برز هذا السؤال قوياً مع موجة الكتابة التقدمية أو الأدب الملتزم، ولأن السؤال بمعناه الواسع تمّ تفنيده مراراً سأقصر التساؤل على جدوى الكتابة بالنسبة للكاتب نفسه وللمثقف العربي عموماً.
تحضر مسألة الازدواجية التي أشرت إليها في البداية كقضية مركزية في السؤال عن جدوى الكتابة، والمسألة هنا أعمق من المحاكمات الأخلاقية التي ابتسرتْها في خانة النفاق، نحن أمام حالة مركبة، من حيث اصطناع الازدواجية وكشفها عبر الكتابة، ومن ثم الإقرار بها أو بالأحرى التسليم بها كواقع من بديهيات العيش. ما يثير الاستغراب هو استقرار الازدواجية في وعي المثقف وفقدانها للدينامية الفاعلة أو التحريضية، وكأن المثقف يتنقل بين ضفتين منفصلتين ويرضخ لقوانين كلّ منهما على حدة، بدلاً من أن يكون هو ذاته بؤرة التفاعل بين الحياة والنص. يقتضي التسليم باستقرار هذه الازدواجية أن الكاتب لا يرى جدوى في الكتابة، وأنه يغادر مؤقتاً قفص المُعاش إلى فضاء النص وحريته، ولكن على نية العودة إلى القفص، وهكذا يبقى النصّ طارئاً وغريباً على “طبيعة” العيش، ما يعيدنا إلى الفكرة العامية، ولكن بصياغة أكثر تثاقفاً، إذ يعادل النصُّ وظيفياً الحلمَ، مع فارق أنه يحدث في ساحة الوعي.
يمكننا أن نردّ قسماً كبيراً مما يُسمّى بالكتابة المضادة إلى الثنائية السابقة؛ فاستقرار الكتابة المضادة على مجموعة من “المحرّمات” لا يدلّ على استقرار القيم الاجتماعية وحسب، وإنما يدلّ أيضاً على استقرار النصّ وعجزه عن اختراق التابو، وإلا كيف نفسّر التسامح الاجتماعي غير المعلَن مع هذه الكتابات؟ برأيي إن المجتمع غير مكترث بما يُنجز خارجه، أي الكتابة، وعندما يتبرأ الكتّاب بسلوكهم مما يكتبون فهذا يضع المسألة في إطار الموضة. وعلى سبيل المثال نقرأ الكثير من شكاوى الكاتبات من أن البعض يطابق بينهن وبين نصوصهن، بالطبع هناك حدّ مبتذل، كأن يطابق أحد ما بين روائية وشخصية مومس في رواية لها، أما الحدّ المبتذل الآخر فهو الفصل التام؛ كأن تنظّر كاتبة “أو كاتب” للحرية الجنسية مثلاً، في الوقت الذي تسلك فيها سلوكاً طهرانياً أو تتظاهر به، أو تطالب الآخرين بالنظر إلى آرائها على أنها “مجرّد كتابة“!.
من الطبيعي أن الثنائيات تولّد الفصامات، ومن ذلك فصام المثقف بين الواقع والواقع الرمزي. ما يلفت الانتباه هو تعايش المثقف العربي مع حالة الفصام، وتحولها إلى حالة مزمنة لا تستدعي منه القلق ما دام ينظر إلى المسافة الموهومة بينه وبين مجتمعه، أكثر مما يرى المسافة بينه وبين نصّه. يتخفّى المثقف وراء النصّ مُلقياً باللوم على الآخرين، ومُشهراً يأسه أو عجزه، وفي هذا تتجلى مخاتلة المثقف إذ يركّز على الفعالية الاجتماعية للكتابة، ويطرح على الآخرين ما عليهم القيام به، وكأن الفعالية الذاتية لها قد أُنجزت، مع أن السؤال ينبغي أن يُطرح على محمل شخصي أولاً وهو: لماذا أكتب، أو أقرأ؟ وما الذي تفعله بي الكتابة؟
في الإجابة على السؤال السابق برزت مؤخراً المتعة كشرط لازم وكافٍ للكتابة، وأخذ هذا الرأي وجاهته من تضادّه مع المقولات التربوية أو الوعظية بأنواعها، كما أنه عبّر عن رغبة حثيثة في تحويل النصّ إلى متن مستقل بذاته، ولكن كيف يستقيم هذا الرأي مع وجود الكمّ الهائل من الكتابات التي تتنطع لطرح قيم اجتماعية؟! وإذا تجاوزنا هذا فإن تساؤلاً ثانياً يبرز عمّا وراء المتعة، وعمّا تفعله المتعة، إذا اتفقنا على أن المتعة عتبة ضرورية للكاتب والمتلقي.
أزعم أن نصّاً لا يزحزح كاتبه ومتلقّيه ليس بالنص الممتع أو الجديد، مع نسبية المتعة والجدّة، وأفترض بهذا أن الكتابة تغيّرنا من دون أن نقرر ذلك بالضرورة، ومن دون إعطائها قدرات خارقة أو انقلابية. وأفترض، عندما أكتب نصّاً، أن ما لا أكتبه، أو ما أفكّر به على هوامش الكتابة، هو فعل أساسيّ في صلب الكتابة وجدواها الشخصية. وبالمثل فإن نصّاً أتلقاه ولا يدفعني إلى التفكير خارج النصّ هو نصّ مغلق، وقاصر عن مهمة أساسية من مهام الكتابة. وليس من باب المغالاة القول إن الكتابة تعيننا على فهم نصّ مجازيّ مركّب هو الحياة بمعناها الواسع، مثلما تعيننا على معرفة النصّ المجازي الذي هو كلّ واحد منا. نعم، الكتابة تتوالد من الكتابة، ولكن بعد القيام بنقلة ضرورية هي المرور بالخبرة الشخصية، وبخلاف ذلك يمكننا أن نترك مهمة التأليف لبرامج الكومبيوتر.
ثمة جدوى مضيَّعة للكتابة حين نضعها خارج سياقنا الحياتي، حتى إن فعلنا ذلك بقصد أن نرفع من شأنها، فالكتابة ليست وسيلتنا للتواصل مع الآخر فقط، وإنما وسيلتنا للتواصل مع ذواتنا ووصل فصاماتها أولاً. وهي بهذا المعنى ليست أفكاراً، بل محاولة دائمة لتوليد طرائق جديدة للتفكير، مثلما هي محاولة دائمة لاكتشاف الذات وتوليدها باستمرار، أي أن حياتنا هي نصّ نكتبه ونعيد كتابته. صحيح أننا نعيش في مجتمعات ضاغطة على الفردانية، على ألا يتحول هذا إلى رُهاب ثقافي مستقر، فالمجتمعات المحافظة عموماً تسمح بقنوات تصريف خلفية منعاً لانفجار الأزمات الحادة، ومتى دخل المثقف في هذا التواطؤ يكون قد استسلم لفخّ الازدواجيات والفصامات. ليس مطلوباً من المثقف أن يصبح دونكيشوتاً، فالمحكّ الحقيقي هو أن يخلص لنصّه، وأن يجعل منه نقطة ارتكاز لحياته.
لقد انتهى زمن الريادة، ومن المؤسف أن يتوقف الكاتب، أو الكاتبة،عند إنتاج الخطاب المضادّ نفسه، وكأنه بذلك يغذّي أصولية من نوع جديد، أو يعتاش على قطيعة غير منجزة، ولا يسعى فعلاً إلى إنجازها. وعندما نقول بانتهاء زمن الريادة أو البدايات فهذا يتطلب من الكاتب/الكاتبة أن يكفّ عن النظر إلى نفسه كمشروع نجم، مع ما تقتضيه النجومية من الانشغال بصورته بين أقرانه، وصورته الاجتماعية عموماً، وبالتالي الاضطرار إلى ممارسة الأفعال المنافية لها سرّاً. ولا بأس في أن نتذكر أن المجتمع البطريركي يكبت النوازع الفردية الحقيقية، ولا يمانع في المقابل، كقناة تصريف، باصطناع الأبطال، على أن يكونوا أبطالاً من ورق.
1 جواد علي ، الـمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج 6 ، دار العلم للملايين/ بيروت، ومكتبة النهضة /بغداد 1970، ، ص 84
2 جعيط ، القرآن والوحي والنبوة، م س، ص 88
3 م ن، ص 88
4 م ن، ص 89
5 حسين مروة ، النزاعات المادية في الإسلام، م س، ص 288
6 أنظر ، تاريخ الطبري ج 2، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف، القاهرة 1961 ، ص ص ، 338 – 340
7 حسن حنفي ، ندوة مواقف ، الإسلام والحداثة ، دار الساقي ، الطبقة الأولى ، لندن 1990
8 م ن، ص 157
9 م ن، ص ن
10 صادق جلال العظم : ذهنيّة التحريم ، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي ، الطبعة الثانية ، نيقوسيا ، قبرص
1994، ص 182
11 من بين هذه المواقف قوله في الصفحة 98 من كتابه الوحي والقرآن والنبوة ما يلي : “فظاهرة الوحي التي لم ينكرها أحد من الفلاسفة والعلماء” ولا نرى أننا في حاجة لكي نعدد أسماء الفلاسفة والعلماء الذين لم ينكروا الوحي فقط وإنما المقدسات جميعها، والذين لم يخل منهم أي عصر.
12 جعيط ، الوحي والقرآن والنبوة، م س، ص 92
13 م ن، ص ن
14 م ن، ص 93
15 م ن، ص 93
16 م ن، ص 94
17 ابن طفيل، حي بن يقظان، تحقيق فاروق سعد، الدار العربية للكتاب، الطبعة الرابعة، تونس 1983، ص 113
(- L.Ibaaquil. Ecole Inculatio ideologiques au Maroc, les aspects de la socialisation scolaire thèse de 3 è cycle(1) Paris,V,1977.
(- L.I Baaquil, Mobilité, dans classes sociales et passages par l’école au Maroc thèse de doctorat d’etat, (2) Univ.Paris V, René Descrete (Sorbones),3 tomes .,1987.
(- L.Ibaaquil: l’école marocaine …….op.cit.(3)
(- Aîcha Belarbi: Enfance au quotidien, edition la Fennec , Casa blanca,1991.(1)
(1) – ب. بورديو . الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال ، البيضاء ط II، 1990.
موقع الآوان