السلطة والمعرفة
د . عبدالله إبراهيم
لاحظ يورغن هابرماز أن العلاقة بين السلطة والمعرفة تشكل أحد أبرز الظواهر الملفتة، فالسلطة تستخدم المعرفة لأهداف نفعية لها صلة بديمومة السلطة، وتوسيع هيمنتها على الأفراد. ويخص الفلسفة باهتمامه، فيقرر أن الفلسفة هي التي أعلنت ولادة الفكر العقلي، وأحلته محل الفكر الأسطوري. ولكن قبل هذا، وخلال العصر الوسيط كانت الفلسفة من خلال اندماجها باللاهوت
ونفي العلم، قد أمّنت نوعاً من الشرعية للسلطة الدينية والسياسية، لأنها سوّغت أمر الوحي عقلياً. أما في العصر الحديث، فقد حلّ العلم محل الدين في علاقة جديدة مع الفلسفة، وكانت هذه العلاقة الجديدة حاسمة في تطور الفلسفة الحديثة نفسها، إلاّ أنه من الواضح أن العلم هو الذي اكتسب الأهمية، وأصبح المعيار الأساس لكل شيء، وأدت تفاعلات الفلسفة والعقل والعلم في تضاعيف الحياة الحديثة وملابساتها وحاجاتها إلى ظهور ما يسمى بـ«العقل الأداتي»،أي العقل بوصفه آلة، أو وسيلة له القدرة على منح الأهمية على كل نشاط وتقرير مدى منفعته وتميّزه وجدواه.
وسرعان ما رافق ذلك نزعة علمية سادت أوساط المجتمعات الغربية، وأصبحت فيصلاً في إضفاء الشرعية على آليات التحكّم التكنوقراطي، وهو تحكم يستبعد أي قيمة للعقل بدلالاته الإنسانية، ويسعى هابرماز لفصل«النزعة العلمية»عن«العلم»،لأنه يريد أن يخضع العلم لنزعة عقلية تنتظم من ضمن موجهات أخلاقية-اجتماعية. وما دفعه إلى ذلك اكتشافه بأن الحراك الاجتماعي في ظل سيطرة النزعة العلمية، بدأ يتجه إلى نوع من اللاهوت الجديد المتنوع، فما يلاحظ داخل المجتمعات الصناعية المتقدمة، هو فقدان الأمل بالخلاص، وفقدان الأمل هذا يؤدي إلى الهروب والانطواء، وهو يشكل ظاهرة عامة، فللمرة الأولى، كما يقول هابرماز، يبدو السواد الأعظم من الناس مسجونين بعدما اهتزّ عمق ما كان يؤمّن هويتهم في وعي الحياة اليومية التي تعلمنت كلياً، وعاجزين عن الاستناد إلى يقين يفترض أن توجده المؤسسات المنتشرة في المجتمع، وفي الأقل ليس لديهم قوة ذاتية تؤمن لهم الاستقرار النفساني، وهذا أدّى إلى شيوع النزعات الشكلية، والاعتصام بالذات والنكوص على نحو لم تعرفه المجتمعات من قبل، وبإزاء حالة عامة مثل هذه، ظهرت مجموعة من البدائل الصغيرة عن الدين الذي كان في الماضي يؤمن الاستقرار الذاتي. من ذلك بروز مجموعات ثقافية هامشية تنتمي إلى مذاهب وفرق كثيرة، لا رابط بين رؤاها ولا أفكارها ولا عقائدها، وهذه المجموعات تمارس عبادات وتأملات تتراوح بين التأمل المتعالي، أو الأيديولوجية الجذرية ذات الطابع اللاهوتي التي تريد تغيير العالم، إلى جانب ممارسات فوضوية وجنسية، يرافقها عبث وتمرد، وانخراط في تجمعات وأحزاب لا تعبر عن حقيقة الأهداف التي تقول بها، وما هذه إلاّ «وثنية جديدة تعبر عن نفسها من خلال تعدد العبادات وأساطير التحزبات المحلية».
ويخلص هابرماز إلى القول«في مواجهة هذه الظواهر الملتبسة الناتجة عن دمار الهويات الجماعية والهويات الشخصية اللتين تشكلتا في متن الحضارات الكبرى، لن يجد التفكير الفلسفي الواسع النفوذ والمتواصل مع العلوم سبيلاً له إلاّ عبر تحريك وحدة العقل الهشة. أي وحدة المتغاير والمتماثل التي يدفع إليها النقاش العقلاني». ويعود كل هذا إلى أن التغيير الاجتماعي بدأ يتسارع على نحو يفوق التصورات، الأمر الذي يجعل العلاقات الاجتماعية عائمة على أوهام لا شكل لها، وبما أن ذلك التغيير يؤدي إلى توسيع في قوى الإنتاج بسبب التطور العلمي والتقني، فإن هذين العنصرين سرعان ما سيطرا بدورهما على المجتمع سيطرة تامة، وأصبحت البنيات المعرفية مستقلة عن الأهداف التي رسمت لها، أو قامت من أجلها، وهذه السلطة الجديدة هي «سلطة التقنية». لحظ هابرماز كل الآثار التي تركتها التقنية في حياة الإنسان المعاصر، وبخاصة حينما أنتجت أيديولوجيا معبرة عنها تمارس سلطة قاهرة في ظل شرعية التقنية. وهو يؤكد أن إمكانيات السيطرة التقنية على الطبيعة نمت في ظل التطور التاريخي-العالمي لأساليب العمل الاجتماعي، وتم بذلك حسر نفوذ الخرافات الروحانية وتحرير الناس من أسر الخضوع السحري لقوى الطبيعة خطوة أثر خطوة. وتشكّلت مادة نشاط الأنا القائمة على قمع واضطهاد الغرائز تحت تأثير الخضوع التام لهدف الحياة، وقمع الطبيعة الذاتية والموضوعية معاً. وبذلك تبدو الأنا الواضحة المحددة، التي عقد عصر التنوير كل آماله عليها، مجرد بؤرة صلبة عنيدة للعنف والإخفاق، وفي الوقت ذاته، سوف يتحول النظام العلمي الذي رافق نشأة الذات، ومعه العلوم كلها إلى مجرد جزء من الطبيعة نفسها، ولن يكون للعقل إلاّ دور أداة التكيّف، بدلاً من أن يصبح مفتاحاً أساسياً للحرية.
منح هابرماز دوراً بارزاً للعقل في نشاطه النقدي، باعتباره يمثل المرجعية المحددة للنشاط الإنساني، إذ ليس ثمة معرفة إلا بالعقل كما كان يقول«كانت». ولكنه حذّر من أن ينحرف العقل عن نشاطه الإنساني الحر، ويوظف بطريقة لا توافق الهدف الأساسي له. وبما أن إمكانيات تسخير العقل في المجتمع أخذت مظاهر سياسية وعلمية وتقنية….إلخ، فإن العقل هنا اندرج في خدمة نوع من الممارسة السلطوية التي ينبغي أن يترفع عنها، وما أثار اهتمام هابرماز في مشروعه النقدي أن التطورات التقنية دفعت العقل إلى الأمام باعتباره أداة لمعيار العقلانية، وهنا ظهر مفهوم«العقل العلمي»الذي راح يسوِّغ مشروعية ما للنظام السياسي والاجتماعي الحديث، ومعنى هذا أن العلم انتظم في سياق نزعة علمية أيديولوجية لا يهدف إلى تطوير الممارسات العلمية فقط، إنما يضفي شرعية على النظم السياسية التي تتبنى العقلانية التقنية، وقد بين هابرماز أنه إذا كان الدين أو الميتافيزيقيا في وقت من الأوقات، يلعبان دور المانح الرمزي للمشروعية، فإن العلم في الزمن الحديث حل محلهما، بل إن النزعة العلمية أصبحت تعتبر رؤية للعالم تجعل من العلم النشاط الإنساني الوحيد الحامل للمعنى.
كاتب من العراق