بول كروغمان يشعر بتحسّن اليوم
موفق نيربية
«أسعدتني أخبار القمة الأوروبية البارحة، لذلك أشعر بتحسّن اليوم، لكن الأمر ما زال مرعباً… لم أكن أحسب أنني سوف أرى شيئاً يشبه عام 1931 في حياتي، لكن هذه الأزمة تحمل تلك السمات». هذا بعض ما قاله بول كروغمان عند إبلاغه نبأ نيله جائزة نوبل للاقتصاد في هذا العام… وكان الخبراء توقّعوا أن تلقي الأزمة العالمية بظلالها على مناقشات الأكاديمية السويدية، كما حدث بالفعل، لأنها اختارت عملياً ناقداً دؤوباً لإدارة جورج بوش، ولسياسات التجارة الحرة المنفلتة، وللعولمة من دون حدود.
وباختصار حتى لا نكرر ما نقلته وسائل الإعلام بغزارة، كانت الجائزة تقديراً لمقاربة كروغمان المبنية على مسلّمة تقول إن كثيراً من السلع والخدمات يمكن إنتاجها في مراكز تكثيف تصبح فيها «المناطق مقسمة إلى نواة أكثر مدنية وعالية المستوى التكنولوجي، و«أطراف» أقل تطوراً». وتوضح نظريته لماذا تهيمن على التجارة العالمية بلدانٌ لا تتمتّع بشروط متشابهة وحسب، بل تتاجر بمنتجات متشابهة أيضاً.
في كتابه الأخير «ضمير شخص ليبرالي»، يدافع كروغمان عن ضرورة اللجوء إلى «صفقة جديدة» جديدة، بتقليص الفروق الاجتماعية الاقتصادية في الولايات المتحدة، وتوسيع شبكة الأمان التي بدأت بحياكتها برامج فرانكلين د. روزفلت في الثلاثينيات من القرن الماضي.
وله أيضاً كتاب نشره عام 1999 اسمه «عودة علوم اقتصاد الانهيار»، ولذلك دلالته الاستشرافية. فالأزمة المالية العالمية تلقي بظلالها الداكنة على العالم كله، وأحمق من يحسب أنه لن يتأثّر بهذه الأزمة.
كان «كينز» أعظم اقتصاديّي القرن العشرين، كما ينبغي تسميته الآن. فهو لم يكن صاحب الآليّات التي ساعدت الولايات المتحدة على تجاوز الكساد العظيم في الثلاثينيات بزيادة تدخّل الدولة وحسب، لكنه صاحبها الآن… ودائماً. فالميل المتصاعد نحو زيادة دور المجتمع المدني على حساب الدولة ينبغي ألاّ يمتدّ بالمرونة نفسها إلى ميدان الاقتصاد، والاقتصاد الكبير خصوصاً. هنا يبدو كأن هنالك خفّة تمّت فيها عملية استعادة ما فقدته الليبرالية من مكاسب -وأكثر- في الثلاثينيات المذكورة، منذ سبعينيات القرن الماضي وفي العهد الريغاني والتاتشري، بالترافق مع سياسات المواجهة الأكثر حزماً مع الاتحاد السوفييتي آنذاك، ثم نشوة الانتصار اللاحقة، التي بلغت في عهد بوش الابن حدّ الرعونة، وبالخصوص بعد أحداث سبتمبر، والرعونة في السياسة الأميركية شيء خطير، لا على الولايات المتحدة وحدها، بل على العالم كلّه.
ثبت الآن أن الليبرالية الجديدة خطيرة بانفلاتها، ولا بدّ من استيعاب الدرس المرافق، كلّ حسب حالته وخصائصه، لقد ابتدأت الأزمة الأميركية من الرهن العقاري، وهنالك ما يشبه ذلك حتى في بلادنا ودولنا الموجودة في الهامش أو في مكان مخادع.
سورية نموذج يمكن ملاحقة تأثير الأزمة عليه بغرابة وخصوصية، فمثل بعض البلدان الأخرى، قال المسؤولون والمختصون أشياء حائرة محيّرة. بعضهم قال إنه لا علاقة مباشرة بين جسم الاقتصاد السوري- أو رأسه المالي على الأقل- والاقتصاد المالي العالمي، لذلك لن تكون انعكاسات، والبعض الآخر قال إننا سنعاني كغيرنا في المرحلة القادمة.
ما يهمّ النخبة السائدة هو الشماتة بمصير بوش والامبريالية عموماً، واستنتاج الجميع الآن ضرورة زيادة تدخل الدولة: والدولة هنا هي السلطة. ما يهمّها فوق أيّ شيء آخر أن الأقدار قد أقحمت العالم في أزمات جديدة كبرى تبعد الأنظار عن الاهتمام بالنظام والضغط عليه، وكأن الانشغال بالعراق والقوقاز وكوريا، والانتخابات الأميركية خصوصاً، لا يكفي.
لكن هنالك هيمنة لعقلية ليبرالية جديدة من نوع خاص، رغم «الممانعة» المشهودة من جسم النظام البيروقراطي القديم الضخم المترهل. هذه العقلية تنطلق من تركيبة مختلفة عن تلك الموجودة وراء البحار. هذه تهيمن على الدولة من خلال السلطة ومفاتيحها الأكثر جبروتاً، وتتمدّد بثبات باتّجاه كل المفاصل.
مثل هذه الشريحة لا يمكن السيطرة عليها وعلى جنوحها إلا من خلال الدولة، ولا يمكن لهذه أن تقوم بذلك إلاّ من خلال تحرّرها النسبي من السلطة، وهذا أيضاً غير ممكن من دون تغيير معادلات الاحتكار السياسي وتطوير مشاركة المجتمع السياسية… وتنمية المجتمع المدني!
من دون ذلك سوف تضيف الأزمة العالمية أبعاداً جديدة على حجم المغامرة، ومسؤوليات مستقبلية فادحة، ومنها احتمال انهيارات اقتصادية ومعيشية.
لم أكن أعرف كروغمان إلا ككاتب عمود في النيويورك تايمز أقرب إلى تناول المواضيع مع أبعادها الاقتصادية أحياناً، راجعت بعض أعماله، ومنها موجزه لحياته العملية، يقول فيه إن نظريته قد اتضّحت لديه فجأةً وبعد بحث طويل مثل «رؤيا في الطريق إلى دمشق»، وهو يقصد التمثّل ببولس الرسول بالطبع… لكن الشيء بالشيء يُذكر.
* كاتب سوري