الأزمة المالية العالمية

الأزمة المالية… وسقوط “أسطورة الفصل”

بول كروجمان
قلما توحي البيانات الاقتصادية بأفكار شاعرية. ومع ذلك، فإنني وحينما كنت أقلب في رأسي البيانات المتعلقة بالأزمة المالية الأخيرة، أدركت أن بعض الأبيات التي دبجها الشاعر الإنجليزي الشهير “ويليام باتلر ييتس” كانت تدور في رأسي مع تلك البيانات. الأبيات التي أقصدها هي تلك التي يقول فيها “ييتس”: الصقر يحوم، ويحوم في دائرة تتسع دوماً.. ورويداً رويداً لا يصبح الصقر قادراً على سماع صوت الصقَّار… عندها تتهاوى الأشياء.. ولا يعود مركز الدائرة قادراً على التماسك”.
وإذا ما حاولنا مطابقة هذه الأبيات الشعرية مع ما يحدث أمامنا في الوقت الراهن فإننا نستطيع القول إن الدائرة التي تتسع دوماً هي ما يعرف بـ”حلقات المردود أو العائد” Feedback loops التي يفترض أنها تساعد على توضيح بعض التعقيدات التي تحدث ضمن الأنظمة المعقدة، كما تستخدم في عمليات تقييم الأداء (شيء أبعد ما يكون عن الشاعرية.. أليس كذلك؟). ولكنها تتسبب كما نرى أمامنا أحياناً في جعل أية أزمة مالية تدور، وتدور، حتى تخرج عن نطاق السيطرة. أما الصقار التعس في حالتنا الراهنة فهو بلاشك “هنري بولسون” وزير الخزانة الأميركي.
ومما يفاقم من خطورة الأمر أن تلك الدائرة لا تزال تواصل اتساعها بطرق جديدة ومخيفة في الحقيقة. وعلى رغم أن السيد “بولسون” ونظراءه في الدول المختلفة في شتى أنحاء العالم قد هرعوا لإنقاذ البنوك، إلا أن هناك ارتدادات أخرى تظهر على صُعد مختلفة. وبعض تلك الأزمات كان متوقعاً بصورة أو بأخرى. فلبعض الوقت ظل الاقتصاديون يتساءلون عن السبب الذي لا يجعل “صناديق التحوط” تعاني مثل غيرها وسط المذبحة المالية التي حدثت. بيد أن هؤلاء الاقتصاديين لم يعودوا بحاجة إلى المزيد من التساؤل الآن بعد أن رأوا بأم أعينهم أن المستثمرين يسحبون أموالهم من تلك الصناديق بالفعل الآن، مُجبِرين مديريها على تجميع الأموال من خلال بيع الأسهم والسندات والأصوال بأسعار منخفضة للغاية.
والشيء الصادم في الحقيقة الآن هو الطريقة التي تنتشر بها الأزمة المالية إلى الأسواق الصاعدة في دول مثل روسيا وكوريا الجنوبية والبرازيل. فتلك الدول، كما هو معروف، كانت في صميم الأزمة المالية العالمية التي وقعت في عام 1990، والتي استجابت لها تلك الدول من خلال تكوين احتياطيات ضخمة من الدولار واليورو، كان من المفترض أن تحميها في حالة وقوع أية أزمة مفاجئة في المستقبل. ومنذ فترة ليست بالبعيدة في الماضي، كان الجميع يتحدثون عما كان يطلق عليه “أسطورة الفصل” التي كان يقصد بها تلك القدرة المفترض توافرها لدى الاقتصادات الصاعدة على مواصلة النمو حتى في تلك الحالة التي يسقط فيها الاقتصاد الأميركي في حالة ركود. وفي شهر مارس الماضي أكدت مجلة “الإيكونوميست” لقرائها أن “نظرية الفصل ليست أسطورة كما يعتقد البعض، وإنما هي نظرية حقيقية قادرة على إنقاذ الاقتصاد العالمي”.
هذا ما قيل في ذلك الوقت. ولكن ما نشاهده الآن هو أن الأسواق الصاعدة تعاني من مصاعب كبيرة، وأن نظرية الفصل لم تفدها بشيء. وليست هنالك حاجة للقول إن الاضطرابات الحالية في المنظومة البنكية، وكذلك الاضطرابات الجديدة في صناديق التحوط، وفي الأسواق الصاعدة، تشد أزر بعضها بعضاً، وأن الأخبار السيئة تولد أخباراً أسوأ، وأن دائرة الألم لا تزال تواصل اتساعها. وفي الوقت نفسه، نجد أن صناع السياسات الاقتصادية في أميركا يترددون، عندما تحين لحظة عمل ما هو لازم، عن احتواء هذه الأزمة.
ومن الأنباء الطيبة التي سمعناها تلك التي جاءت على لسان “بولسون” عندما أعلن أنه قد وافق في النهاية على ضخ رأس مال في المنظومة البنكية مقابل الملكية الجزئية لبعض البنوك. ولكن المحلل “جو نوكريا” كتب مؤخراً مقالا في مجلة “التايمز” أشار فيه إلى وجود نقاط ضعف رئيسية في خطة إنقاذ البنوك التي أعدتها وزارة الخزانة الأميركية، منها أنها لم تتضمن أي ضوابط ضد احتمال فشل البنوك في التعامل مع الرساميل المودعة لديها. وكان من ضمن ما قاله نوكريا في مقاله: “إن حكومتنا -وعلى النقيض من الحكومة البريطانية ـ تبدو خائفة من عمل أي شيء سوى التوسل والمناشدة”.
والحق أن ثمة شيئاً غريباً آخر يتم في سوق الرهن العقاري. فـأنا شخصياً كنت أعتقد أن عملية استيلاء الحكومة الفيدرالية على وكالتي الإقراض الشهيرتين “فاني ماي” و”فريدي ماك” كان الغرض منها إزالة مخاوف الناس حول قدرة هاتين الوكالتين على الوفاء بكافة ديونهما، وهي المخاوف التي كان يمكن أن تؤدي بالتبعية إلى انخفاض أسعار الرهن العقاري. ومع ذلك رأينا كبار المسؤولين الأميركيين يركزون تحديداً على النقطة المتعلقة بإنكار أن ديون “فاني ماي” و”فريدي ماك” مدعومة “بالكامل” من قبل الحكومة الأميركية. وكنتيجة لذلك، فإن الأسواق لا تزال تتعامل مع ديون هاتين الوكالتين باعتبارها أصولاً خطرة، وهو ما يؤدي إلى رفع أسعار الرهن العقاري إلى أعلى في الوقت الذي كان يفترض فيه أن تهبط إلى أسفل.
في تقديري، أن ما يحدث هو نتيجة لحقيقة أن أيديولوجية إدارة بوش المناهضة لدور أكبر للحكومة، لا تزال تقف حجر عثرة في طريق اتخاذ إجراءات فعالة للخروج من تلك الأزمة. ومهما كانت الأسباب التي أدت إلى ضعف تلك السياسات واستمرار هذا الضعف، فإن الشيء الواضح أمامنا تمام الوضوح هو أن الأوضاع لم تصبح بعد تحت السيطرة.. وأن الاشياء لا تزال تواصل تداعيها وانهيارها.
بول كروجمان
كاتب أميركي حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد 2008
ينشر بترتيب خاص مع خدمة “نيويورك تايمز”
جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى