“الأساويش” الأكراد هل هم “جنجويد” الموصل؟
أمين ناصر
وأخيرا صوّت البرلمان العراقي بكتله الطائفية والحزبية والميليشيوية على حذف المادة الخمسين من الدستور العراقي والتي تضمن للاقليات العرقية والاثنية حق التمثيل البرلماني في عراق ما بعد السقوط، والاجماع على ان ما من مكان لهم في تحاصص اليوم. مع ادراك الجميع بأن هولاء هم اصل في حضارة وادي الرافدين بل هم من اسسوا حضارة عمرها سبعة آلاف سنة واخص الكلدو – اشوريين والسريان الذين غادروا العراق مجبرين، وما زال حنين يعيش في عروقهم حاملين خريطته على صدورهم غير مجزوءة ولا اقاليم فيها او مناطق خضراء.
فبعد ان صوت العراقيون على الدستور متحفظين عن بعض نصوصه وفقراته بعيدا عن الجدل الدائر بين هذه الكتلة او تلك، واحتدام صراخ بعض زعماء الكتل الوطنية الداعية الى عدم ضم كركوك الى اقليم كردستان مدعاة الانفصال الكارثي الذي لا يهدد العراق فحسب بل المنطقة برمتها ودليل ذلك الشمال الكردي التركي، وكل الانفلاتات التي تعيشها الغابة العراقية.
والضعيف الاضعف اليوم في قارورة هذا الاختناق او الاحتباس الذي يعيشه الشعب العراقي المسكين هي الاقليات المضغوطة فيه، سواء كانت عرقية ام اثنية بل ان معظمها تعرض الى حملات ابادة شاملة في مناطق الوجود التكفيري او التي تتمتع بغالبية لا تتفق والاقليات تلك، كالذي حدث من ابادات جماعية تعرض لها المسيحيون في القرى الشمالية من مدينة الموصل او الشبك والازديون في سنجار من المدينة ذاتها وهي عمليات تشبه تلك التي تتآمر في تنفيذها امم او دول. ففي اخر ابادة للازديين، كان عدد الضحايا لا يقل عن الخمسمئة قتيل فضلا عن تهديم كامل للمدينة.
وما الى ذلك من عمليات خطف وذبح وتهجير كانت قد طالت قساوسة وكهنة ورجال دين مسيحيين بارزين، من بين اشهرهم المطران فرج رحو الذي اعلن عن بقائه في الموصل رغم تفجير دار عبادته اكثر من ثلاث مرات وتهديد مستمر بالقتل. وتشير المصادر في وزارتي “الهجرة والمهجرين” و”حقوق الانسان” العراقيتين الى ان غالبية عمليات النزوح والهجرة الجماعية، تطول اناسا كانوا قد سكنوا مناطق تعتقد الاكثريات الحاكمة المتسلطة فيها بكفرهم او انهم يساهمون في ارباك مشاريعهم المصلحية المستقبلية في هذا الحيز من العراق او ذاك.
وهذا ما جرى للمسيحيين حتى داخل العاصمة بغداد حيث تعرضوا لهجمات عنيفة على كنائسهم ومنازلهم وحتى محالهم، مما اضطرهم للهروب الى اوطان تضمن لهم ابسط مستويات العيش المشترك ولا تلغي انتماءهم الديني، شرط الا يلغى انتماؤهم الى العراق الذي يتحدثون عنه بعيون دامعة.
ريجينا فرح متي، إبنة الخامسة والعشرين تقول وهي تحمل بيدها تأشيرة سفرها الى اوستراليا من مفوضية شؤون اللاجئين في بيروت “ان العراق بلدي وفيه طفولتي وصباي وكليتي ولا ارغب في تركه لميليشيات”، وحتى البرلمانيون على حد قول ريجينا هم ميليشيويون يأتمرون بأمرة من يريد ان يجعل العراق منحطا بصورة طائفية ما عهدناها ابدا. ويقول الأب ق. و. الذي رغب في عدم الكشف عن اسمه خوفا على بعض ذويه في الموصل- والمقيم حاليا في لبنان، يقول انا كنت حين اندلاع هذه الفتنة هناك في قره قوش وهي منطقة تقع شمال شرق الموصل، وهذه المنطقة تتمتع بغالبية مسيحية تقدر بالسبعين الف مسيحي مجتمعين وابناء الموصل من الكلدان كافة، وهي تحوي كنائس يفوق عددها مجتمعة وكنائس الموصل الخمسين. وفي قراءة الاب ق. للامر منظار اخر، حيث يقول بعد ان ضاق الافق بالكرد المسيطرين على المناطق الشمالية من العراق، وبعد الفشل في الضغط على بعض القوى لضم كركوك الى اقليم كردستان فدولة او حلم الانفصال، دفعت بعض الجهات، واخص الاحزاب التي تحكم الاقليم، دفعت ببعض حلفائها في البرلمان العراقي للتصويت على حذف المادة 50 من الدستور. وليت شعري ان مجمل الخلاف على الدستور بين الكتل البرلمانية كان السيادة العراقية والوجود الاميركي والفيديراليات، وليس للاقليات شان في هذا الجدل، وحاصله انني تنبأت بهذا، وحاضرت ببعض الاخوة في الموصل منبها الى ان الكرد يفتشون عن بديل يسد اخفاقهم في كركوك ويفتح لهم منفذا من طريق جلولا الى شط العرب، ليكون بعد ذلك الامر الواقع في اعلان الانفصال ولا يتم هذا الامر الا من خلال مدينتكم هذه واخص ام الربيعين.
وبالفعل جندت “البشمركه” الميلشيات الكردية بحسب الاب ق. لتنفيذ هذا المشروع، بعد استمالة وشراء ذمم بعض ضعاف النفوس من المسيحيين الذين تظاهروا زيفا منددين بشجب التصويت على حذف المادة الخمسين مطالبين بالانفصال اولا او الحكم الذاتي او الانضمام الى اقليم كردستان، مما دفع النخب الواعية المسيحية العراقية الى التصدي لهذا التشرذم، ودفع الاحزاب الكردية وميليشياتها الى تنفيذ مخططاتها هناك والتي لن تنتهي بهذا الكم الهائل من القتل والخراب وتهجير العوائل فحسب، بل انا اؤكد ان حتى هذه المعالم المسيحية والاديرة ودور العبادة التي عمرها مئات السنين ستزول عما قريب.
وهذا الامر يذكرنا بما حدث في بغداد وبعض مدن العراق في اوائل اربعينات القرن العشرين حيث جرت احداث ما سمي بالفرهود حينها، وهي احداث افتعلها مالك كوهين وهو يهودي عراقي انضوى الى الحزب الشيوعي العراقي انذاك، واخذ يهم في الخفاء الى ضرب اليهود وتفجير محلاتهم وبيوتهم ودور عباداتهم في باب الاغاء وباب الشيخ ومناطق اخرى، منفذاً لاجندة تهجير اليهود العراقيين الى ارض الميعاد “فان المسلمين سيفتكون بهم بطشا آنذاك” على حد دعواه التي اكتشفت في ما بعد.
وهذا الامر علّ في اغفاله جانباً خطيراً من ان القوى المحتلة لعراق البند السابع هي الاولى في حماية هؤلاء المسيحيين، سيما ان قدومها الى العراق كانت حجته الاساسية المبطنة الدفاع عن امن مسيحييّ العالم من هجمات التطرف، سيما بعد احداث الحادي عشر من ايلول التي تبعد آلاف الكيلومترات عن شمال العراق.
بيدّ ان البعض رأى أن وراء هذه العمليات اصبعاً وصمتاً اميركياً مخيفاً، لعدم اتخاذ اي اجراء بهذا الشأن غير دعوات العراقيين الى اراضي الولايات المتحدة كلاجئين.
وهذا ما اكده اللاجئ رغيد يعقوب الذي قال ان العراق “بلدي الاصل”، وليس الولايات المتحدة ولا ارغب حتى في اللجوء اليها، ففاقد الشي لا يعطيه. فهل بعد أن سلبوا امني سيعطونني بعض هذا الامن؟ وهل اميركا قادرة على توفير المعيشة اللائقة لمواطنيها لتتمكن من توفير ادنى مستويات العيش لهؤلاء العراقيين، خاصة بعد الازمة المالية وتسريح الآلاف من الموظفين الاكفياء. ويضيف رغيد بان اصل الازمة هي القوات الاميركية الغازية ومن استخف بالشعب وراح يمارس اجنداتها وهي توزع الحصص بين هذا الموالي وذاك المنتفع الوصولي.
اما اللاجئ جوزف عمانؤيل دلي فيقول “لقد اجبرت على بيع بيتي منذ شهور بمبلغ بخس جدا لشخص كردي من الاتحاد الاسلامي الكردستاني، وهؤلاء اناس متطرفون لامرين: لديانتهم الاسلام على حد قوله، ولقوميتهم الكردية، مما اضطرني للجوء الى لبنان علّ فيه منفذا لضمان الحريات او حقوق الانسان”.
وردا على سؤال، قال ارغب في السفر الى اميركا اليوم وما دعوات المجالس العليا للكنائس الشرقية لمسيحيّ العراق بالبقاء والصبر الا هواء في شبك، فهم لا يدركون حقيقة الامر الذي يعيشه المسيحيون هناك بل ان العدد الذي تسمعون عن نزوحه هو آخر ما تبقى من مسيحيي الشمال.
وهذا ما عبر عنه رئيس اساقفة الكلدان في كركوك المطران لويس سكو، حين قال “ان المسيحيين يتعرضون لابشع حملات التصفية في العراق. وما نتعرض له من اضطهاد وملاحقة وبطش له اهدافه السياسية، فمن يستهدفنا يبحث عن مكاسب سياسية، والهدف اما دفع المسيحيين الى الهجرة او اجبارنا على التحالف مع جهات لا نريد مشاريعها. واكد سكو لقد تم استهدافنا في الموصل والبصرة وبغداد وكركوك، مما ادى الى هجرة اكثر من مئتين وخمسين الفاً منا، وتعرضنا الى حوالى المئتي تفجير، وما زلنا نُقتل ونُهجّر كل يوم.
وقال هنالك منشورات ترمى في احيائنا وفي الموصل بالذات مكتوب فيها نصوص من القرآن “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فان انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين”، “واخرجوهم من حيث ما اخرجوكم”.
وهذا ما تحدث عنه العشرات من المسيحيين الوافدين حديثا الى لبنان من ان سيارات “الاساويش” – وهي التسمية الكردية لامن البشمركة الكردي – تجول في النهار، لتكتب بالصبغ الاسود على جدران الكنائس ودور المسيحيين عبارات تهديد بالرحيل في احياء كثيرة مثل السكر والحدباء والبلديات والكفاءات وتلكيف وقره قوش والبكر والساحل الايسر من مدينة الموصل، مما دفعنا للهروب الى سوريا وحتى ايران ومنا من قدم الى لبنان لعلمه بان الامم المتحدة فيه تساعد على السفر وانه في لبنان المسيحيون غير مضطهدين. وعلى ضوء هذه الشهادات يسأل المراقب هل “اساويش” الموصل الاكراد يشبهون “جنجويد” دارفور؟ ما نحتاج اليه هو دعوة الحكومة العراقية للتأكد من صحة هذه الاتهامات التي أتى بها النازحون.
وهنالك العشرات من العائلات العراقية التي وفدت حديثا الى لبنان، وبعضها اتخذ من الكنائس مأوى له بسبب مغادرته دارته في الموصل دون ان يجلب معه ابسط مستلزمات العيش. فالسيد ميني الذي لجأ الى كنيسة الخلاص في الاشرفية يقول لقد قتلوا اخي امام نظر والدتي واحرقوا دارنا فقط لاننا عراقيون ليس لاننا مسيحيون مثلما يصور البعض، بل ان هؤلاء يستهدفون كل العراق.
وكرد فعل رسمي ولتبرير الموقف الحكومي من اتخاذ اللازم لمعالجة مأزق التهجير ومعضلة مسيحيي الموصل، يهم في هذه الايام وفد سياسي ديني من حزب الدعوة الاسلامية – حزب رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي – بالقيام بجولة على القيادات المسيحية والرموز الدينية اللبنانية، لتبيان ان حقيقة ما يجري في العراق هو تنفيذ لاجندات خارجية يديرها الارهاب الدولي تحت عباءة ما يسمى بدولة العراق الاسلامية.
في الوقت ذاته اعربت الولايات المتحدة بحسب ستيفان جاكمي مدير مفوضية شؤون اللاجئين في بيروت عن رغبتها بمنح حق اللجوء لقرابة الثمانين في المئة من اللاجئين العرقيين المسجلين لدى مفوضيات شؤون اللاجئين والتابعة للامم المتحدة في كل من مصر والاردن وسوريا ولبنان، اي ان هنالك هجرة او لجوء ما يقارب الاثني عشر الفا من العراقيين الذين نزحوا من العراق بسبب تعرضهم للاضطهاد ولأعمال عنف طائفية او عرقية.
الامر الذي دفع بهؤلاء المسيحيين الذين تعرضوا للابعاد القسري عن بيوتهم والموت والتشريد، للوقوف طوابير امام مفوضية شؤون اللاجئين في بيروت، وهم يسترحمون الدول الكبرى والتي تتغنى بحماية حقوق الانسان كي تمنحهم حق العيش والبقاء، بعيدا عن ارض اسسوها بانامل اجدادهم الذين يشهد لهم العراقيون المسلمون قبل غيرهم ان ما من جرم في رقابهم منذ مئات بل الاف السنين.
(صحافي عراقي مقيم في بيروت)
النهار