كــردستــــان الــعـــراق وتقــنــيـــة الإنفصـــال
علي السعدي
المراقب لطبيعة ومحتوى الخطاب السياسي لبعض القيادات الكردية. سيعجب ولا شك من لغة ومنهجية ذلك الخطاب. الذي يفترض إنه يسير وفق منهجية تحدد اتجاهات البناء الديموقراطي.
فالمطالبات المرتفعة السقوف – رغم أحقيتها نظرياً – تذكر بحكاية ذلك الرجل الذي منح مكحلة سحرية. يرى عند إستخدامها، جميع كنوز الأرض شرط ان يكحل بها عيناً واحدة. ويترك الأخرى لرؤية ما يحيط به. ولكنه من اجل طلب المزيد كحل عينيه معا. ففقد نعمة البصر.
الشحنة الإنتقادية في هذه المقدمة. لا تحول دون هدف المقال. وهو محاولة التقرب من قراءة المعطيات التي يتحرك ضمنها خطاب اكراد العراق الذين يمثلون ما نسبته 20% من مجموع السكان – حوالى 6 ملايين نسمة – ثلثهم تقريباً من الفيلية واليزيدية والعلوية والشبك. وهؤلاء لهم أوضاع خاصة تختلف بشكل ما عن بقية الاكراد. اما الباقون – وهم العصب الأساس للقومية الكردية – فينقسمون بين كرمانجية 60% وسورانية 30% وكورانية 10%. تمثل المكوّن الاول زعامة البارزاني. فيما يميل السورانيون نحو طالباني. أما أراضي أقليم كردستان العراق فتسكنها أقليات تركمانية وعربية وكلدو آشورية وغيرها تزيد نسبتها عن 30% من مجموع سكان الأقليم. أي اكثر من نسبة الأكراد قياساً بالعراق.
منحت التقسيمات السياسية بين القوى الكردية إمكان تحقيق حلم دمج الأكراد تحت قيادة واحدة. وهو ما لم يحصل منذ العام 1975. فقد اصبح مسعود البارزاني قائد الإقليم من دون منازع. فيما ذهب جلال طالباني للإنشغال بأوضاع العراق كرئيس للجمهورية “الفيديرالية”. وهذا ما يعبر عن حسابات لا تنقصها الدقة. إذ ان المشروع الكردي كي يتوج بإقامة كردستان الكبرى يحتاج الى سنوات اخرى من العمل الشاق بمختلف إتجاهاته داخلياً وخارجياً. ولكل من القائدين ميزاته وحنكته التي يمكن إستثمارها. فالبارازني ما زال في الستينات من عمره وهو قائد قبلي وسياسي تاريخي يستطيع أن يرتب أوضاع الإقليم تمهيداً لوثبة اخرى مقبلة. اما طالباني وقد تجاوز السبعين. فيمكن الاستفادة من خبراته الطويلة في فهمه للعقلية العربية وكيفية التعاطي معها. كما أن موقعه كرئيس للعراق. سيمكنه من تذليل بعض الصعوبات إقليمياً. وترويج فكرة حق الإنفصال لاحقاً. أي أن سنواته المتبقية – وقبل أن يحين وقت أفولها – ستدخله التاريخ كأول رئيس كردي للعراق وكزعيم عريق مهد السبيل لقيام دولة كردستان العتيدة.
تتوافر للمشروع الكردي بمرحلته الراهنة سلة من المعطيات تمتلىء بكل ما يلائم امتداد الحلم الى أقصاه فالديموقراطية ستصبح سمة العصر كمشروع كوني وهي تعني في أهم مرتكزاتها حق الاختيار لذا يتحرك الساسة الكرد ضمن النطاق الفعلي لهذا الحق ويوسعونه حسب رؤيتهم ما داموا حصلوا على اعتراف بتميز هويتهم القومية.
في المقابل تواجه الاطراف الممانعة او الرافضة للتوجه الكردي أوضاعاً صعبة. فالعراقيون العرب منقسمون بين شيعة وسنة كما انقسم ملوك الطوائف في الاندلس وما بينهما بالكاد امكن ترميمه. وفي كل حال. ليس هناك من قوة عسكرية فاعلة تستطيع كبح جماح التحرك الكردي. أما إقليميا، فالعرب جميعا يعانون من مشاكل تحيد باهتماماتهم عن الاكراد، خاصة ان تحرك هؤلاء لا يهدد أية دولة عربية بشكل مباشر – باستثناء سوريا – فيما يمكن حسابات ايران ان تشغلها مرحليا عن كرد العراق. كذلك فإن مشاكلها مع اميركا. ستضمن محدودية تحركها المضاد. أما عن المواقف التركية المتخوفة من طموحات اكراد العراق لإحتمال تأثيرهم على اكرادها، فليس مرجحا تدخلها عسكريا ضدهم بشكل مباشر إذ انها ستبقى محكومة لاعتبار ان ما يجري في العراق هو في المحصلة شأن داخلي يخص دولة اخرى. لذا فان اقصى ما تستطيع تركيا فعله تقديم الدعم الى التركمان او من يتحالف معهم اذا وصلت الامور مرحلة الصدام.
اين اميركا من ذلك كله؟
كان واضحاً منذ البداية. أن حدود المخططات الاميركية للعراق والمنطقة، ستحدد بدورها خريطة الطموح الكردي. فهي الرافعة الوحيدة التي يمكن الأكراد الوصول من خلالها الى ما يريدونه، وبالطريقة التي يشحنون بها خطابهم التعبوي.
أميركا بدورها لا تعارض أن يرفع الكرد سقف مطالبهم للحصول على حصة مجزية في العراق، فهم بالنتيجة جزء من التحالف. وقد وفوا بكل ما إلتزموا به لأميركا، لذا فمن حقهم الحصول على الجائزة التي لن تبلغ حدود الانفصال عمليا. ذلك لأن خطوة كهذه ربما ستكون كإشعال شرارة في برميل بارود وما دامت التجربة قد أثبتت بان الحرب لم تعد تخاض بالجيوش وحدها فإن الجردة العامة لموازين القوى المذكورة آنفاً قد لا تعني شيئاً. وهذا ما ينبغي على أكراد العراق التنبه اليه. صحيح ان الكيان الكردي قد يكون محمياً بالحراب الاميركية. لكنه سيطوق بحراب الكراهية التي اذا لم تتحول الى تصفية حساب عسكرية بالضرورة فبالتجاهل وإدارة الظهر. إذ لا أحد يستطيع إجبار الدول المحيطة على إقامة علاقات طبيعية مع الكيان الكردي الذي يتحول والحالة هذه الى مجرد “غيتو” يجاهد ساكنوه للخروج منه.
لقد مر تاريخ العراق بالكثير من التجارب الدامية التي من شأنها جعل الشعور بالمسؤولية يحتل المقام الأول في خطاب وحركة كافة الأطراف العراقية، لكن المفارقة، أن ما كان السبب الرئيسي لمحنة العراقيين عموماً والاكراد على وجه خاص، يستحضر اليوم للوصول الى الغايات نفسها التي فشل صدام في تحقيقها. فاذا فتح الأكراد هذا الباب الجهنمي – الانفصال – فقد لا يكونون بمنأى عن تأثيراته. فماذا تراهم فاعلون لو طالب التركمان والعرب والكلدو آشوريون – وعلاقتهم بالأكراد لم تكن يوما على ما يرام – بالانفصال عن كردستان؟
هل سيلجأون الى قمعهم وتهجيرهم؟ أم يمنحونهم ما يريدون فتتحول كردستان شظايا متناثرة؟ يبدو ان ذلك الاحتمال قد جرى التنبه له باكرا وان الخيار الاول قد يكون هو من تم اعتماده. لذا اشارت علامات الاستفهام الى ما جرى للعوائل المسيحية التي هجرت من مناطق في الموصل تسيطر عليها قوات البشمركة. كما امتدت تلك التساؤلات الى ما جرى قبلها في تلعفر وامرلي وسنجار.
لقد تحول موضوع التلويح بالانفصال ورقة استخدمت باكثر مما يجب. لذا على القوى السياسية العراقية الاخرى. أن تطالب الاكراد بحسم أمرهم. فإن أرادوا الانفصال فليكن ذلك الآن وعلى مسؤوليتهم الخاصة، لأن إستمرار ذلك الخطاب بوتيرته الحالية سوف يهدد العراق والمنطقة برمتها. أو فليبن وطن يحصل فيه الجميع على حقوق المواطنة كاملة غير منقوصة. وطن يوفر الكرامة والأمان لكل أبنائه بعيداً عن العنصرية والتعصب. ولا فضل لأحد فيه على أحد.
– بغداد
النهار