أجندة الإصلاح في العالم العربي، إلى أين؟
خالد الحروب
هل تجاوزت رياح الإصلاح والدمقرطة المنطقة العربية وتركتها تتخبط في استبداداتها، وفشلت في إحداث التغيير المنشود؟ وماذا حدث لكثير من مشاريع وأفكار الإصلاح السياسي ونشر الديموقراطية التي ملأت الجوّ خلال السنوات القليلة الماضية؟ وهل عادت السياسة الأميركية تحديدا والغربية عموماً إلى سابق عهدها حيث يتأسس تعاملها مع المنطقة وشعوبها وأنظمتها على قاعدة «الوضع القائم»، سياسياً، واجتماعياً، وثقافياً؟ وهل أثبتت الأنظمة السياسية العربية «عبقرية» من نوع خاص في انحنائها الجزئي لـ «موجة الدعوات الديموقراطية» ومجاملتها لفظياً وبالوعود ريثما تمرّ وتنتهي؟ وهل ما زالت القوى والبنية الداخلية في أغلب المجتمعات العربية عاجزة فعلاً عن إجبار «الوضع القائم» على التغير والانفتاح نحو دمقرطة حقيقية؟
الإجابات على هذه الأسئلة وغيرها هي في غالبها محبطة. وربما أكثر الخلاصات إحباطاً هي مسألة الحاجة الى دور حاسم من الخارج للضغط باتجاه الدمقرطة والإصلاح السياسي، وللإبقاء على هذه الأجندة مفتوحة بشكل جدي، وأنه من دون هذا الدور فإن القوى الداخلية أضعف من أن تحقق التغيير المنشود. لكن المعضلة الكبيرة هنا تكمن في أن الدور الخارجي (الغربي الرسمي) فاقد للصدقية السياسية، واهتمامه بهذه الأجندة أثار شبهات عميقة ليس فقط حول الغايات النهائية، بل تسبب أيضاً في إثارة سمعة سيئة حول المشروعات الديموقراطية نفسها. وحتى تزداد المسألة تعقيدا فإن الحركات الإسلامية في المنطقة، وهي أقوى التيارات وأكثر المستفيدين من أية عملية دمقرطة حقيقية، لم تقدم ما يُساعد على ترسيخ القناعات بأن مسار الدمقرطة سوف يُفضي إلى مآلات أقل توتراً من «الوضع القائم» في ما لو تقدم وحصلت هذه الحركات بنتيجته على السلطة هنا أو هناك.
نحن إذن أمام معضلة حقيقية ومركبة: ليس هناك إصلاح ودمقرطة نابعة من الداخل. أي تغيير حقيقي يحتاج إلى ضغط خارجي، لكن الضغط الخارجي يُفقد الدمقرطة صدقيتها ويثير شبهات حولها، والدمقرطة نفسها سوف تحمل الإسلاميين إلى الحكم، الذين هم بدورهم لا يطمئنون الآخرين الى رؤاهم وأيديولوجياتهم. وهكذا يغدو الظافر الوحيد جراء المعضلة الراهنة هو استبدادات «الوضع القائم» والتي تعتاش الآن على مقولة إنها على رغم سوئها المعروف أفضل من سوء أي مُستجد بالحكم، لن يفعل سوى أن يكرر تجربتها لكن بعد مسيرة طويلة من العناء والتضحيات وربما الدماء التي تدفعها المجتمعات.
الجانب المتعلق بالإصلاح النابع من الداخل يكشف ضعفه تقرير ريادي صدر عن «مبادرة الإصلاح العربي والمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية» بعنوان «حالة الإصلاح في العالم العربي 2008». و «مبادرة الإصلاح العربي» هي أهم جهد عربي غير حكومي يتبنى أجندة الإصلاح والدمقرطة، وهي تحالف بين عشرة مراكز عربية من المشرق إلى المغرب، يُضاف إليها أربعة مراكز أوروبية وواحد أميركي. يُغامر هذا التقرير الذي يدرس حالات ثماني دول عربية في صوغ «مقياس الديموقراطية العربي» من خلال مؤشرات كمية وإحصائية، وشروحات كيفية، يُموضع الدول العربية في ترتيب بحسب اندراجها في سياق الإصلاح والدمقرطة (ويُمكن الإطلاع على التقرير المُشار إليه على الموقع الالكتروني www.arab-reform.net). وجانب المُغامرة في تصميم مثل هذا المقياس يكمن في ندرة المعلومات وصعوبة الحصول عليها. فهناك حاجة الى معلومات إحصائية عن الأوضاع السياسية وحقوق الإنسان والممارسات اللاديموقراطية والقضائية وما يتعلق بالشفافية والفساد وسوى ذلك من مناطق هي أشبه بحقول الألغام في الدول العربية. وأذكر أن نفس هذه الفكرة، إصدار تقرير سنوي يرتب الدول العربية على أساس التحول الديموقراطي فيها مُعتمداً مؤشرات إحصائية وعلمية، ظلت تتردد في نقاشات «ورشة مشروع دراسات الديموقراطية في البلدان العربية» التي تُعقد في أكسفورد كل سنة منذ اوائل التسعينات، بإشراف الزميلين رغيد الصلح وعلي الكواري. لكن لم ننجح في ترجمة تلك الفكرة على الأرض.
«حالة الإصلاح في العالم العربي» يُقارب موضوع الدمقرطة والإصلاح بحذر ودقة بخاصة لجهة عدم إطلاق المقولات العامة، أو الدخول في أحكام مُسبقة، وكذا في إدراك الحالة البائسة التي تعاني منها البلدان العربية على هذه الصعيد. لهذا فإن التقرير يقر، كما تكتب بسمة قضماني في المقدمة، أن التمرين برمته يتلخص في الغالب على «قياس درجة انكفاء الاستبداد أكثر مما هو تقدم الدمقرطة بالمعنى الدقيق للكلمة، أي انخفاض غموض وقلة شفافية الحكم وعمل المؤسسات الأمن – سياسية، وتراجع انتهاكات حقوق الإنسان، والرقابة، والحد من حرية التعبير، ورفع المحظورات. والتقرير ينقسم إلى أربعة أقسام هي: المنهجية، والنتائج، والأوراق التحليلية، والخلاصة والتوصيات، وسوف يصدر بشكل سنوي، وهو الامر الذي يستحق الترحيب الشديد. فائدة التقارير السنوية التي تستعرض أوضاع البلدان من الجوانب المختلفة، وبخاصة السياسية والاستبدادية، انها تشكل حافزاً غير مباشر وعنصر دفع لتحسين الأحوال. صحيح ان كثيرا من التقارير السنوية لمنظمات حقوق الإنسان مثلاً او حتى للأمم المتحدة يُلقى بها عرض الحائط من قبل الحكومات المعنية، لكن لا يُمكن إنكار الأثر التراكمي على المدى الطويل لمثل هذه التقارير وما تثيره من ضغوط إعلامية إيجابية.
البلدان العربية الثماني التي تم تضمينها في هذا الجهد المهم هي مصر والمغرب والسعودية والأردن وفلسطين ولبنان والجزائر واليمن، وهي بهذا تعكس حقيقة الوضع بشكل لا بأس فيه في العالم العربي. ومن المتوقع وبشكل شبه مؤكد أن يحرص المشرفون على التقرير في السنوات القادمة على ضم أكبر عدد ممكن من الدول العربية وصولاً إليها كلها كي يتصف الجهد بالشمولية وبالتعبير المحق عن «حالة الإصلاح في العالم العربي» وليس في بعض دوله وحسب. في البلدان الثماني هناك مراكز بحث معروفة ورصينة وقانونية هي التي قامت بالبحث الميداني، الذي تم جمعه وتبويبه من قبل فريق عمل رئيسي (خليل الشقاقي، ومضر قسيس، وجهاد حرب)، بالإضافة إلى مساهمات كتابية من قبل رامي خوري، وبسمة قضماني، وعبدالله ساعف.
المحور الأساسي في التقرير هو صياغة «مقياس الديموقراطية العربي»، والذي يعتمد، وبحسب شرح خليل الشقاقي، في جمع بياناته على ثلاث آليات: الجانب الدستوري أو القانوني، وانطباعات الرأي العام، والممارسة الفعلية لأنظمة الحكم من خلال العمل الميداني والتقارير الموثقة لممارسات سلطات الحكم. ويضع الشقاقي القارئ في صورة الصعوبات التي واجهت صياغة هذا المقياس، وهو يبتعد عن الزعم بأن هذا المقياس خال من الاشكالات او يعكس بصورة دقيقة ما أراد أن يعكسه، وعوض ذلك يشير إلى أن الفائدة الدلالية منه هي توفير صورة إجمالية تساعد على إدراك مستويات العملية الإصلاحية والديموقراطية في البلدان المعنية.
إضافة إلى المؤشرات الكمية والإحصائية تضمن التقرير مقاربات نوعية تستكمل النتائج الكمية، وفي هذه المقاربات جدل مهم يستحق التوقف عنده أيضا. ففي مقاربتها حول «يقظة المجتمعات كمحرك للإصلاح الفعلي» تقول بسمة قضماني إن إحدى أهم الاشكاليات الخاصة بالإصلاح في البلدان العربية هي أن المحرك الرئيسي لها هو نفسه هدف الإصلاح، أي النخبة الحاكمة، مما يسمح بإصلاحات دستورية محدودة تقابلها ممارسات تقييدية، مما يعني أن تأثير الإصلاحات «من فوق» محدود. أما رامي خوري وفي مقاربته حول «المشرق العربي: لبرلة من دون تحول ديموقراطي» فإنه يشير إلى أن إصلاحات المشرق تعوقها الحروب والمعارك الأيديولوجية وحدتها، ويلاحظ أن العلاقة بين الأنظمة السياسية الأوتوقراطية ولبرلة الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية تقوم على تعزيز كل منها الآخر، بدل أن تقوم الآلية الثانية بتفكيك الاستبداد الذي تتصف به الأولى. وفي حالة «الإصلاحات السياسية في العالم العربي: المثال المغاربي» يتناول عبدالله ساعف تحولات وعمليات الإصلاح في منطقة المغرب العربي ضمن منظور واقع تلك التحولات في العالم العربي بشكل عام. وتمثل مقاربة ساعف مساهمة عميقة وثرية جداً في التقرير على اكثر من مستوى. ويناقش فيها أيضا تحديين لا يواجهان المغرب العربي وحسب بل البلدان العربية برمتها، الأول هو علاقة اللبرلة السياسية باللبرلة الاقتصادية وأيهما يسبق الآخر، والثاني مسألة الدمقرطة والأسلمة. وفي الثاني يقر بأن صياغة موقف مشترك إزاء مساهمة الإسلاميين في الدمقرطة ما زال أقرب إلى الأمنية.
* اكاديمي اردني فلسطيني – جامعة كامبردج
الحياة – 02/11/08