صفحات مختارة

عقبات أمام الحريات بالمنطقة العربية

كمال العبيدي
الحديث عن تعهد الدول العربية باحترام الحق في حرية التعبير والحصول على المعلومات ونقلها إلى الآخرين بكل حرية أينما كانوا، لم يعد يثير الكثير من الاهتمام خاصة في أوساط المدونين العرب.
إذ سمعت أكثر من مرة الأشهر الماضية مدونين ممن ساهموا بكل شجاعة في رفع سقف حرية التعبير بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا وكلفتهم شجاعتهم ثمنا باهظا، يرددون أنه لا فائدة في تذكير دول مستبدة بالتزاماتها بتطبيق ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في مجال حرية الكلمة.
فهؤلاء الشباب الذين أدركوا أهمية التدوين والتواصل عبر شبكة الإنترنت بحرية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، يعتبرون مطالبة الدول العربية بحماية حقوق الإنسان ومن بينها الحق في حرية التعبير وضمان تدفق المعلومات والحصول عليها من باب إضاعة الوقت.
لأنهم يؤثرون ممارسة حقهم في حرية التعبير وحقوق أساسية أخرى، مهما كان الثمن، على مخاطبة حكومات بينت التجربة أنها لا تخجل من انتهاك حقوق شعوبها ولا تكترث بالأصوات والبيانات المطالبة بحماية هذه الحقوق الأساسية.
تعهدات عربية غير محترمة
يجدر التذكير بتعهد الدول العربية باحترام ما نص عليه البند التاسع عشر للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، من ضمان لحق كل إنسان في حرية الرأي والتعبير والحصول على المعلومات والأفكار ونقلها إلى الآخرين دون اعتبار للحدود وبجميع الأشكال والوسائل.
كما يجدر التذكير أيضا بأن كافة الدول العربية تعهدت تحت مظلة منظمة اليونسكو منذ أحد عشر عاما بالعمل على تنفيذ ما نص عليه إعلان صنعاء حول “تعزيز استقلال وتعددية وسائل الإعلام العربية” وأقرت بأن النزوع إلى “وضع خطوط حمراء خارج نطاق القانون ينطوي على تقييد لهذه الحريات ويعتبر أمرا غير مقبول.”
لكن إعلان صنعاء الذي تمت صياغته في العاصمة اليمنية عام 1996 من قبل ممثلين عن الحكومات العربية ومنظمات صحفية عربية ودولية وخبراء في الإعلام، لم يتم احترامه من الحكومات الموقعة عليه وكان شأنه شأن المواثيق الأخرى.
وليس بالأمر الغريب أن تتكاثر منذ سنوات الدراسات الحقوقية والأكاديمية التي تبين بوضوح قصور التشريعات العربية الخاصة بالنشر والصحافة، عن الارتقاء إلى مستوى المعايير الدولية لحرية التعبير وضمان تدفق المعلومات والحق في تداولها ونشرها تداولها.
كما أنه ليس من المستغرب ألا تعبر الدول العربية عن استعدادها لاستقبال المقرر الأممي الخاص بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير.
ولعله من العدل الإشارة قبل ضرب أمثلة عن نسق تدفق المعلومات وما يعترض سبيلها من عقبات إلى أن هامش حرية التعبير يضيق ويتسع من دولة عربية إلى أخرى، فالمتصفح للجرائد المصرية أو المغربية مثلا يدرك مدى اتساع دائرة الجرأة وتراجع دور الرقيب خلال السنوات القليلة الماضية حتى في بعض الصحف التي تملكها الدولتان المصرية والمغربية.
أما الصحف التي تملكها أحزاب سياسية أو شركات تجارية في هاتين الدولتين، فقد أعلت سقف حرية التعبير بشكل لم يسبق له مثيل منذ أكثر من خمسين عاما رغم ما تتعرض له من مضايقات أمنية وملاحقات قضائية وضغوط اقتصادية.
ومن بين هذه الصحف الدستور وصوت الأمة والفجر والمصري اليوم والكرامة والعربي في مصر، والمساء ولي جورنال وتل كيل والأحداث المغربية والجريدة الأولى في المغرب.
استهداف الصحفيين
وتوثق منظمات عربية ودولية معنية بقضية حرية التعبير منذ سنوات حالات صحفيين ونشطاء حقوقيين تم فصلهم عن العمل أو زج بهم في السجن أو اضطروا للهجرة، بسبب مقالات وآراء لا تكلف صحفيين في مصر الخاضعة لقانون الطوارئ أو المغرب ثمنا باهظا.
لكن هذه المنظمات أصبحت منذ أكثر من سنة شديدة الانشغال بما تعتقد أنه تراجع في مجال حرية التعبير وتشديد للقيود المفروضة في كل الدول العربية، بما في ذلك مصر والمغرب وموريتانيا التي حققت تقدما أكثر من جل شقيقاتها العربية في سنوات قليلة على درب التحرر من قيود الرقابة.
يُذكر أن لجنة حماية الصحفيين وضعت عام 2007 كلا من مصر والمغرب على قائمة أسماء عشر دول من مختلف أنحاء العالم، شهدت تراجعا مثيرا للانشغال في حرية الصحافة.
لكن رغم ما طرأ من تراجع في مصر والمغرب، يظل الحق في حرية التعبير يتعرض لحصار أشد في دول عربية أخرى كثيرا ما تتذرع بما يسمى الحرب على الإرهاب بقيادة الإدارة الأميركية أو ذرائع أخرى لارتكاب مزيد من الاعتداءات على حرية التعبير وتقييد الحق في الحصول على المعلومات وتلفيق القضايا الجنائية ضد الصحفيين.
والجدير بالتذكير أن الأحكام الصادرة ضد الصحفيين والمعارضين بقضايا الرأي والنشر في مختلف الدول العربية، تبدو اليوم أكثر قسوة من أحكام صدرت في قضايا مماثلة في عهد الاحتلال الأجنبي.
فقد جاء على سبيل المثال في شهادة أدلت بها أستاذة الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة د. عواطف عبد الرحمن في يونيو/ حزيران الماضي بطلب من إحدى محاكم الاستئناف بالقاهرة، أن القضاء المصري في النصف الأول من القرن العشرين كان أكثر ميلا لإصدار أحكام ببراءة الصحفيين من القضاء المصري بداية القرن الواحد والعشرين.
وتم الإدلاء بهذه الشهادة في إحدى الجلسات الخاصة بقضية رفعها منذ أكثر من عام اثنان من أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي الذي يقوده الرئيس مبارك ضد رؤساء تحرير أربعة صحف خاصة هم: رئيس تحرير الفجر الأسبوعية عادل حمودة ورئيس تحرير الكرامة الأسبوعية سابقا عبد الحليم قنديل ورئيس تحرير صوت الأمة سابقا وائل الإبراشي ورئيس تحرير الدستور اليومية إبراهيم عيسى.
واستشهدت د. عواطف عبد الرحمن بأحكام القضاء المصري في قضايا مماثلة تضمنت نقدا عنيفا وجهه صحفيون لرموز السلطة منذ أكثر من ثمانين سنة وانتهت بإنصاف الصحفيين وتبرئتهم. ومن أبرزها الحكم الصادر من محكمة جنايات مصر في يناير/ كانون الثاني 1925 ببراءة د. محمد حسين هيكل من تهمة السب والقذف في حق زعيم الأمة سعد باشا زغلول الذي كان آنذك رئيسا للوزراء.
محاصرة القضاة عائق أمام حرية التعبير
وتأتي اليوم مثل هذه الأحكام القاسية بحبس الصحفيين والمدونين والمؤثرة سلبا على حركة إنتاج وتداول ونشر المعلومات في مختلف الدول العربية، في وقت تشتد فيه قبضة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، وتتكاثر حالات اعتداء رجال الأمن على القضاة ومضايقة وتهميش المدافعين عن المؤسسة القضائية التي كثيرا ما وضعت في الماضي قضية حرية الرأي والتعبير فوق الاعتبارات السياسية.
وطبيعي أن يتساءل المرء: كيف يمكن أن تزدهر حرية الفكر والتعبير والصحافة والنشر اللازمة لبناء مستقبل عربي أقل فسادا واستبدادا وفقرا في غياب قضاء مستقل؟
فرغم وجود قضاة يتسمون بالنزاهة، فان المؤسسة القضائية لم تتحرر بعد حتى في الدول التي شرعت نهاية القرن الماضي في القيام بخطوات إصلاحية جريئة.
كما أن هناك حقيقة أخرى قد يكون من المفيد الإشارة إليها وهي أن ارتفاع عدد حالات الاعتداء بالدول العربية على الصحفيين والمدونين ومحاصرة الحق في الحصول على معلومات صالحة للنشر، تتعلق باحتجاجات اجتماعية أو كوارث ناجمة عن غياب حسن التخطيط والإدارة يتزامن مع ارتفاع مؤشر الفساد.
فالمطلع على التقارير السنوية لمنظمة الشفافية الدولية يلاحظ أن مؤشر الفساد في جل الدول العربية في ارتفاع مذهل.
وفي غياب القوانين الحامية للحق في الحصول على المعلومات بكل الدول العربية، يشتد الحصار على وسائل الإعلام والنشر على جميع الجبهات بما في ذلك البث الإذاعي والتلفزي الذي تعرض في فبراير/ شباط لهجمة لا مثيل لها منذ أن بدأت الدول العربية تسمح نهاية القرن العشرين بإنشاء محطات إذاعية وتلفزية خاصة.
فقد جاءت “وثيقة مبادئ تنظيم البث الفضائي الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية” التي أقرها وزراء الإعلام العرب –باستثناء ٌقطر- في القاهرة بتاريخ 12 فبراير/ شباط لتؤكد أن القوى المسيطرة على صناعة القرار بالدول العربية ما زالت تنظر إلى الحق في حرية الصحافة والتعبير من زاوية مصلحتها الضيقة، وترى في الإعلام مجرد وسيلة لضمان استمرارية قادتها في الحكم مهما كان الثمن والتطور الإعلامي والديمقراطي في بقاع أخرى من العالم.
وليس من الغريب أن تحدث مثل هذه الهجمة في وقت أصبحت فيه بعض الفضائيات العربية تنقل مشاهد عن تصاعد الاحتجاجات والاعتصامات والكوارث الاجتماعية المتتالية، وتلقي الضوء على قضايا جد مسيئة إلى صورة الحكومات العربية كقضية التعذيب مما يزيد من إقبال الناس على مشاهدتها وعزلة المحطات الإذاعية والتلفزية الرسمية.
ولعل قضية التعذيب وفضح مرتكبيه قد ساهمت أيضا في حث الحكومات العربية على مزيد إحكام قبضتها على الإعلام الكتروني، وملاحقة واعتقال المدونين الذين أصبحت كتاباتهم الناقدة مصدر إزعاج لهذه الحكومات ولمختلف أعداء الحق في حرية التعبير بالمنطقة العربية.
وحسب دراسة أعدتها منذ عامين مجموعة أكاديمية تدعى مبادرة الإنترنت المفتوح (أوبن نت) فان هناك ست دول في العالم تتصدر قائمة الدول الأكثر تضييقا على شبكة الإنترنت وحجبا للمواقع الإعلامية والسياسية، وهي: بورما والصين وإيران وتونس وسوريا وفيتنام.
وجاءت هذه الدراسة نتيجة شراكة بين جامعات أوكسفورد وكامبريدج البريطانيتين وهارفارد الأميركية وتورنتو الكندية.
كما تجدر الإشارة من جهة أخرى إلى أن الحكومات العربية ليست الجهة الوحيدة المقيدة لحركة تدفق المعلومات والرقيبة عليها وعلى نشرها. إذ للمؤسسات الدينية، سواء كانت إسلامية أم مسيحية بالمنطقة العربية، وكذلك لعدد من الشيوخ المتشددين كلمة مؤثرة وأحيانا مخيفة فيما يتعلق بالكتب الممنوع تداولها والمواقع الإلكترونية الواجب حجبها والصحفيين اللازم جلدهم وحبسهم.
فعندما يعتبر رئيس المجلس الأعلى للقضاء بالمملكة السعودية الشيخ صالح اللحيدان قتل ملاك الفضائيات التي تبث في نظره برامج “مفسدة” أمرا ضروريا أو يطالب عضو هيئة الإفتاء السعودية سابقا الشيخ عبد الله بن جبرين في سبتمبر/ أيلول الماضي بمعاقبة الصحفيين الذين ينتقصون من شأن المشايخ عبر المقالات أو اللقاءات التلفزيونية بالفصل عن العمل أو الجلد أو الحبس، يدرك المرء خطورة أوضاع الكتاب والصحفيين والمدونين وكل الراغبين في إبداء أرائهم في الشأن العام بالمنطقة العربية.
هل يمكن معالجة هذه الأوضاع الخطيرة وضمان تدفق المعلومات اللازمة لبناء غد أفضل وأكثر طمأنينة عبر المؤسسات التعليمية ومختلف وسائل الإعلام في ظل دول عربية يرأسها أفراد أقوى من كل المؤسسات، ويرفضون التعلم من تجارب ناجحة في جنوب إفريقيا ودول أخرى في أوروبا وأميركا اللاتينية تحتل اليوم مكانة مرموقة بعد ما كانت حتى الربع الأخير من القرن العشرين غارقة في مستنقع الفقر والأمية والاستبداد؟
الجواب حسب اجتهادي لا يكون إلا بالنفي.
صحفي تونسي وممثل لجنة حماية الصحفيين بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى