عن القرضاوي وميكي ماوس وفتاوى أخرى
عبدالله أمين الحلاق
في ظل حمّى الفتاوى التي باتت أشبه باليومية، وهستيريا إلغاء الآخر التي يقوم بها ببراعة مشايخ أتقنوا هذه المهنة البنيوية في فكرهم، لا يمكن المرء إلا ان يستغرب التناقض بين فتوى وأخرى تردّ عليها، بما يشبه الحرب الإعلامية بين طرفين بمرجعية فكرية واحدة، وبعيداً عن تحليل الفتاوى وصحتها وهي القائمة على منطق الاستخفاف بالبشر وتوجهاتهم واولوياتهم، واستمرار احتلال العقل العربي وتغييبه والسيطرة عليه وإبقائه تابعاً لمرجعيات دينية وسياسية تغطي بدورها تلك المرجعيات الدينية، ما اعتدناه تاريخياً في العلاقة بين الدين والسياسة في بلادنا.
لن يكون استعراضنا لبعض الحالات عبر هذا المقال سوى تحصيل حاصل، وإن يكن ضرورياً، وسيتيح الأفق المقبل لنا ان نعمل أقلامنا في استعراض المزيد من الفتاوى التي صارت جزءاً لا يتجزأ من طرح هذا المفتي او ذاك الشيخ، ولمصر طبعاً النصيب الأسد في ظل شيوخ المؤسسة الدينية المهيمنة والتي لم تتوقف عن الفتاوى المحللة والمحرمة، شأنها شأن حملات التكفير ومنع المطبوعات التي قادتها ضد كتابات نصر حامد ابو زيد او سيد القمني وغيرهما.
المفتي علي جمعة في مصر يفتي بصحة صيام الفنانات حتى لو قمن بتصوير مشاهد تمثيلية غرامية في أوقات الصيام في شهر رمضان، وقد أيد هذه الفتوى رئيس لجنة الفتوى الأزهرية بقوله: “إن الصوم صحيح طالما أن مشاهد القبلات للفنانات والفنانين في نهار رمضان لا تثير الغريزة”، بينما نرى المستشار الإعلامي لدار الإفتاء المصرية ابرهيم نجم، ينفي تماما أن يكون المفتي أدلى بهذه الفتوى، أو أدلى بحديث في أي برنامج تلفزيوني، قال فيه مثل هذا الكلام.
على أن الموضوع أبعد من مدى صدقية الصحيفة المصرية التي نقلت هذا الكلام عن المفتي علي جمعة، وخصوصاً أننا لا نستغرب فتاوى كهذه تصدر عن مشايخ في مصر وغيرها مهما تكن درجة هزليتها وغرابتها ولا منطقيتها، ولنا في فتوى “إرضاع الكبير” خير مثال على ذلك، فما بالك إذا كان الشيخ علي أبو الحسن وهو الرئيس السابق للجنة الفتوى بالأزهر قد أيدها واعتبر “أن الصوم يعتبر صحيحا شرعاً، وهذه هي القاعدة الفقهية، وبالقياس عليها فإن مشاهد القبلات للفنانات والفنانين في نهار رمضان طالما لا تثير غريزة، فالصوم صحيح”.
ننتظر جميعاً فتوى تنفي هذه الفتوى وتنزع عنها صفة الصحة والشرعية، لندخل مرة اخرى في دوامة الفتاوى الى درجة تشعرك ان أوقات الفراغ لدى بعض أصحاب العمائم تستثمر بشكل يقود إلى السعادة في الدنيا والنجاة من الشيطان بحسب مصطلحاتهم وقاموسهم الفقهي، هذا الشيطان الذي يمثل العدو الأول للمسلمين والذي سيحفّز اسماً آخر في عالم الفتاوى العربي هو الشيخ المنجّد للدعوة الى إعدام ميكي ماوس، الشخصية الكارتونية الظريفة والتي تستحوذ على متعة الكبار والصغار، والتهمة التي لحقت هذه المرة بالأخ ميكي هي انه فأر كما تشير الى ذلك الكنية (ماوس)، وهذا يعني انه من جند الشيطان بحسب المنجّد.
لم يصرح المنجّد بأكثر من ذلك، ولكن لنا ان نتخيل ان برامج الأطفال والشخصيات الكارتونية لن تسلم من نظرية المؤامرة، فلنعتبر ان ميكي ماوس (لعنه الله) قد أهدر عقول أجيال كثيرة لسنوات خلت، ومنعها من التبصر في شؤون الدين والاطلاع على إبداعات الجهابذة من أمثال الشيخ المنجّد، وهذا أصلاً ما يريده الشيطان من امتنا العربية والإسلامية: ان يعوقها عن معاركها مع “القوى الكافرة” المستهدفة كيانها وشعوبها وشيوخها وحكامها من أولي الأمر والأوصياء عليها وعلى عقولها وكل تفاصيل حياتها اليومية، ورافعي رايتها في معارك النصر والتحرير التي يشهد لها العقل العربي المهزوم سابقاً وحالياً والى أمد غير منظور، والشعوب السجينة والتي تصادرها ثنائية الملا والحاكم المستبد.
أيضاً، محمد الهبدان وهو احد علماء الدين (لندقق في كلمة عالِم التي تضعه جنباً إلى جنب مع مدام كوري وأينشتاين)، يدعو النساء الى ارتداء نقاب كامل وشمولي، كعقل هذا العالم الهبدان، بحيث لا يظهر منها سوى عين واحدة، بحجة ان إظهار المرأة لعينيها الاثنتين قد يشجعها على تزيينهما مما يجعلهما مثاراً للغواية، وهذا النقاب فيه شبكة في منطقة العينين، وعلى تلك الشبكة قطعة قماش تغطي إحدى العينين، إلا ان الهبدان – لا فضّ فوه – يتيح للمرأة مشكوراً ان ترفع قطعة القماش تلك عن عينها عندما تريد التأكد من سلعة ما أثناء تجوالها في السوق.
لنبق معاً في المجال الفقهي عزيزي القارئ، ولنعرج معاً على الشيخ القرضاوي وهو الذي احترف الفتاوى وصار جزءاً لا يتجزأ من متابعاتنا الدائمة لوسائل الإعلام، وصار علينا فقط ان نلعب دور المتلقفين للدرر التي يطلقها ويتكرم بها علينا، ونقف عند فتواه بجواز تناول مشروبات تحوي كميات ضئيلة من الكحول: “إن هناك مشروب طاقة موجودا في الأسواق والناس تريد معرفة حكم الشرع فيه، لذلك عندما سئلت وجدت نفسي مجبراً على توضيح الصورة للمسلمين حتى لا يضيقوا على أنفسهم بغير وجه حق”.
العميد السابق لكلية الشريعة وأصول الدين في قطر عبد الحميد الأنصاري أيد القرضاوي وقال: “اتفق معه من ناحية المضمون والتيسير على الناس” وإن يكن الانصاري صرح لوكالة “فرانس برس” “إن عالم الدين أصبح يبيح لنفسه أن يفتي في كل شيء من الطب الى الفلك وصولاً الى السياسة بدون احترام للاختصاص وللدولة المدنية التي من المفترض أن يحكمها القانون وليس الفتاوى، إن ظاهرة الفتاوى تصيب الناس بالكسل العقلي وتمكنهم من التهرب من المسؤولية وهو أمر بعيد عن منهج الإسلام الذي جعل قلب المؤمن وضميره هو المفتي”، وهذا يعيدنا الى التناقض الداخلي في الفكر العربي المأزوم أصلاً.
القرضاوي مدعوم إعلامياً من بعض المحطات التي تتيح له الظهور على شاشاتها وكيل الفتاوى واحدة تلو الأخرى، ومن هذه الوسائل الإعلامية محطة “الجزيرة” القطرية، ولا نعرف هل يجب ان نمر مرور الكرام امام إتاحة المنابر والمحطات والصحف الرسمية احياناً امام الفكر السلفي على مستوى الفتاوى النظرية أو الدعوات الجهادية الموجهة الى الشباب العرب، مع وجود محطات متخصصة بهذا التيار، والتغييب المقصود لمنابر يمكن ان تتيح لرجال الفكر والسياسة والاقتصاد والمثقفين الديموقراطيين بوقت كالذي يستحوذه أهل الفتاوى، ام ان القرضاوي سيقنعنا بقوله: “لست ممن يجرون وراء الإعلام، ولكنني إذا سئلت عن أمر فإنني أجيب”. الجدير بالذكر ان محطة “المجد” التلفزيونية هي التي أتاحت لمحمد الهبدان إذاعة فتواه في ما يخص نقاب المرأة.
هي هذه البلاد والثقافة العربية المنكوبة بغياب العقل والفكر النقدي، واغتيال بذور التحرر الفكري والسياسي، وسيطرة رجال الدين المدعومين والمحميين بغطاء سلطوي عبر سلطات عربية قد تحمل شكلاً صفة العلمانية، بينما نرى استمرار الاجتياح السلفي والفقهي للعقل عبر الفتاوى والتخوين وإقصاء الرأي المختلف ولو وصل الأمر الى إهدار دم بعض المفكرين. ويبدو ان جنون التكفير تجاوز البشر ليصل الى رسوم كارتونية لا وجود لها إلا باعتبارها آخر يجب إقصاؤه في نمط تفكير “سدنة هياكل الوهم”، والتعبير لعبد الرزاق عيد، هي ثنائية الاستبداد السياسي والديني التي لعبت دورها التاريخي وأدته بنجاح ووصلت الى مبتغاها ومبتغى كل فكر سلطوي أحادي.
وإذا كان ميكي ماوس نجا من مقصلة المنجّد بفضل ميزة اللاوجود، إلا ان ذلك لن يمنعنا نحن الكتاب والصحافيين ودعاة التغيير والديموقراطية وحقوق الإنسان ان نتمثل فتوى إعدام ميكي ماوس بشكل قريب من النزوع نحو الخيال، ونصدر فتوى صحافية تسبق فتوى سياسية من الأنظمة العربية المستلهمة النموذج الديني في الحكم والبطريركية، وهي التي حولت السياسة الى دين، وتاريخنا العربي إلى يوم حساب بين الجنة والنار، وتقوم هذه الفتوى الصحافية على الدفاع عن سندريلا واقعية، مظلومة ومضطهدة، تسجَن وتحاكم في عالم الاستبداد العروبي الممتد من المحيط إلى الخليج بتهمة الخيانة والتآمر على الأمة ووهن نفسيتها ¶