الإسلام وثقافة الاجتهاد
د. طيب تيزيني
ثمة مجموعة من المصطلحات والمفاهيم تنتشر في الفكر العربي والإسلامي الراهن على نحو متواتر بين التصاعد والتراجع، دون الانكفاء الكلّي، وهذا من طبائع الأمور. فالناس لا يطرحون من المصطلحات والمفاهيم وما يقترن بها من مشكلات ومعضلات إلا ما يرون أنه ذو صلة بعصرهم، سلباً وإيجاباً. ومن ثم، فهم لا يخترعون ما لا أصل له في الواقع.
بل إن ما يلجأ إليه كتاب وباحثون ومثقفون من محاولات لتلفيق مصطلح أو مفهوم ما، لا يفتقد مسوّغاته الإيديولوجية وغيرها في الواقع المذكور. وهذا ما جعل كثيرين من الموثِّقين والمدققين الإسلاميين الناشطين في حقل السّند والإسناد، يطرحون أسئلة على ما يعتبرونه “ملفقاً” من وثائق تاريخية وأحاديث نبوية: لماذا ظهر ذلك وجرى تداوله؟ العامل الوظيفي الاجتماعي والأيديولوجي هو -بكيفية خاصة- ما يُتيح لنا فكّ مغاليق ذلك السؤال.
ذلك السياق، يمكن وضع اليد على واقعة أن مصطلح “الاجتهاد” وبالتالي “عقيدة” الاجتهاد الإسلامية بالرغم من كونهما لم يردا في النص القرآني والحديثي، فقد لجأ فقهاء مسلمون إلى اعتبار القرآن والحديث النبوي مصدرين بل المصدرين الأولَّيين لتلك العقيدة. إذ إن ذلك يمنح هذا الرأي قوة استثنائية لتأسيسه وتسويغه ونشره في أوساط المؤمنين. وفي هذه الحال نخص بالذكر الحديث النبوي أو المنسوب إلى النبي محمد صلى الله عله وسلم، والخاص بـ”الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر”، فلقد خضع الحديث لعمليات تأويل واسعة النطاق “وفق مقتضى الحال”، ضمن ظروف التغير في المجتمعات العربية، نعني بذلك -على نحو خاص- ما جرى على صعيد التحول من “الإصلاح الديني”، الذي قاده لفيف من المصلحين المفكرين في التاريخ العربي الحديث، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى مقدمات القرن العشرين بكيفية محددة، إلى ما عُرف لاحقاً تحت حدّ “الإسلام السياسي” الذي تبلور في “جماعة الإخوان المسلمين”.
ما نقدمه هنا يأتي في سياق مناسبة مرور ستين عاماً على تأسيس تلك “الجماعة”، ومن ثم على ظهور “الإسلام السياسي”، الذي أتيح له أن يمارس دوراً ملحوظاً ومتنامياً في الحياة السياسية العربية، وخصوصاً في مصر وسوريا والجزائر وتونس. ويتضح ذلك الدور، على نحو الخصوص، في المنظومة الاعتقادية التي اقترنت بعقيدة الجهاد الإسلامي. والأمر هنا يتحدد في التساؤل عما يربط بين الإسلام السياسي وبين الإسلام الإصلاحي، وكما هو واضح، فإن هذا الأخير ينتمي تاريخياً للقرن التاسع عشر وطرف من القرن العشرين، أي لمرحلة أو لمراحل تتماهى، بقدْر أوّلي، مع عصر النهضة العربية الحديثة. أما الإسلام السياسي فقد جاء، كما لاحظنا، متأخراً، واستجاب لمعطيات واستحقاقات مختلفة عن تلك التي توافق معها الإسلام الإصلاحي. ويهمنا من ذلك موقع الحديث النبوي المذكور سابقاً والمتصل بالجهاد بشطريه الإثنين، الأصغر والأكبر، من كل الإسلاميين المعنيين، لأن ضبط هذه المسألة يلقي ضوءاً على الحركات الجهادية عموماً، وذات الطابع التكفيري منها على وجه الخصوص.
فالحركة الإصلاحية الدينية، التي اعتبرناها، بقدر معين، متماهية مع النهضة العربية الحديثة من حيث تاريخها وبنيتها، نشأت ضمن آفاق مفتوحة عقلانية ومستنيرة وداعية للتحديث في بداياتها وإرهاصاتها الأولى، ذلك لأن الاستعمار الغربي لم يكن قد اخترق حدود العالم بعدُ، بحيث يصل إلى العالم العربي والإسلامي. ومن ثم ما كان محتملاً حتى ذلك الحين بعدُ- من أواخر القرن الثامن عشر إلى مرحلة الإخفاق الذي أصاب حركة النهوض المصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وما بعده، ممثَّلاً بحدث حاسم هو عقد اتفاقية كوتاهية عام 1840 بين محمد علي باشا والإنجليز تعبيراً عن سقوط مشروع الأول- نقول، ما كان حتى حينه محتملاً، لم يعد محتملاً. ومن ثم، تم الانتقال من منظومة للقيم تُكرس النهوض والتنوير والإقرار بالآخر (الغرب) إلى منظومة جديدة، راحت تؤكد على مواجهة الغرب الاستعماري عبر السلاح وغيره.
في صلب هذا التحول والتغيّر، الذي طرأ كذلك على المجتمعات العربية الإسلامية باتجاه الإخفاق والنكوص وخيبة الآمال، نشأت القيم التي تُزكّي الجهاد القتالي ضد “الآخر غير المسلم”. ومن ثم، فإن الحديث النبوي المعْنِي عن “الجهاد” ستعمل فئات إسلامية على تفسيره وتأويله على أساس “كفر الآخر”، بحيث يغدو النظر إلى الجهاد بمثابة جهاد واحد يمكن الوصول به إلى “تكفير الآخر”. وبذلك، تمت عملية انتقال من تفسير الجهاد انطلاقاً من مفهوم “المُعاداة”، فلا يُجاهَد إلا ضدّ مَنْ يهدد المسلمين، إلى تفسيره على أساس أنه -أي الجهاد- هو واجب عين على كل مسلم ضد مَنْ يعلن “الكفر”. وهذا ما نعيش طرفاً منه في مرحلتنا الراهنة.
جريدة الاتحاد