نعي مبكر للحضارة الغربية
سمير كرم
حتى الآن يمكن القول إن التفسيرات المقدمة للأزمة المالية العالمية لا تخرج عن ثلاثة خطوط رئيسية:
ـ التفسير الاقتصادي البحت، وهو التفسير الذي يرى في ما جرى في الولايات المتحدة وبعدها في أوروبا وآسيا قبل أن تكر التداعيات لتشمل العالم كله تقريبا في الاشهر الاخيرة هو نتيجة خلل في أداء العمليات المالية والاقتصادية في المؤسسات الرأسمالية الكبرى، وليس نتيجة انهيار في النظام، وهو تفسير يتمسك، حتى الآن على الاقل، بإمكان النجاح في ترميم هذا الخلل بعدد من الإجراءات المستعارة من النظام الاقتصادي الاشتراكي تعيد الوضع الى ما كان عليه قبل الازمة … أي تهيئة هذا الوضع لأزمة لاحقة قد تقع بعد عامين أو خمسة أو عشرة أعوام.
ـ التفسير السياسي، وهو التفسير الذي يرى في ما جرى اضطرابا أعمق يمتد الى جذور النظام السياسي، أي يمتد الى ما تحت السطح، الى طبيعة الأوضاع السياسية المرافقة للنظام الاقتصادي ـ المالي الرأسمالي. ويذهب هذا التفسير الى أن الرأسمالية، التي ارتبطت سياسيا بالديموقراطية بمفهومها الليبرالي بحيث أصبحت توأماً له، مضت أشواطا بعيدة في زعزعة أسس هذه الديموقراطية بسبب الاضطرابات الاجتماعية ـ السياسية التي أدت اليها اللامساواة في مستويات المعيشة. وهذا التفسير يقر بضرورة إدخال تعديلات أساسية على النظام السياسي، وهذه بدورها تتطلب تعديلات موازية في الاوضاع الاقتصادية ـ الاجتماعية لإعادة التوازن الى العلاقة الحتمية »بين الرأسمالية والديموقراطية الليبرالية«. وهذا لا يستوجب نظاما سياسيا جديدا ولا نظاما اقتصاديا جديدا.
ـ التفسير الثقافي، وهو يذهب الى مدى أبعد في رؤية تأثيرات النظامين الاقتصادي والسياسي على نمط الثقافة السائدة في المجتمع الرأسمالي، خاصة بعدما أصبح هو والمجتمع العالمي شيئا واحدا. وينحو هذا التفسير نحو رؤية الازمة من منظور أكثر اتساعا بصورة نوعية من التفسيرين السابقين، فهو يرى أن النظام الرأسمالي قد عاش أكثر من عمره الافتراضي ولم يعد من الممكن أن يعيد التوازن الى ثقافة المجتمع الانساني. ان القيم والمفاهيم الثقافية التي سادت على مدى القرون الأربعة الماضية لم تعد ممكنة الاستمرار، ويرى انه صار من »الحتمي« قيام نظام اقتصادي ـ سياسي ثقافي جديد يتجاوز، أو على الاقل يبدأ في تجاوز، الملكية الخاصة، باعتبارها كانت حجر الزاوية في النظام الرأسمالي، وذلك من أجل الانتقال الى مجتمع جديد تختفي فيه ظواهر ومظاهر الاغتراب والفردية والذاتية ويعود الانسان كائنا اجتماعيا إنسانيا بالمعنى الحقيقي.
هذا التفسير الثقافي هو أكثر التفسيرات الثلاثة عمومية وشمولا … والسبب الرئيسي انه يعتبر ان أزمة الرأسمالية العالمية أزمة حضارة، وان ثمة حتمية تاريخية لان يتم هدم الحضارة الغربية كما نعرفها ونعيشها اليوم، وهي حضارة قامت على أسس ومفاهيم وقيم وآليات النظام الرأسمالي … وفي مقدمها الملكية الخاصة وآلياتها وتأثيراتها وقيمها. فهل يمكن أن تستمر الحضارة الغربية كما نعرفها ونعيشها اليوم اذا انهار النظام الرأسمالي العالمي؟ ام ان انهيار هذا النظام يفضي حتما الى نظام بديل يفضي بدوره الى حضارة اخرى مغايرة؟
للحقيقة، حدث مرات عدة من قبل، خاصة منذ بداية القرن العشرين، أن كتب ونشر مفكرون كثيرون، منهم يمينيون بدرجة فاشي ويساريون بدرجة شيوعي ووسطيون بين أولئك وهؤلاء، نعي الحضارة الغربية دون أن تبدو قسمات الاحتضار على هذه الحضارة. فقد توقع انحدارها وسقوطها مفكرون غربيون عديدون يدينون بأفكار اليمين وجذوره الفلسفية الأساسية، فضلا عن المفكرين الاشتراكيين، ولعل أشهر الجميع هو المفكر الالماني اوزوالد شبنغلر في كتابه الذائع الصيت »انحدار الحضارة الغربية« الذي نشر خلال الاعوام من ١٩١٨ و ١٩٢٢ وهناك غيره من غير الاشتراكيين مثل المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي (الحضارة في الميزان) والمؤرخ الاميركي الذي سطع نجمه في أواخر القرن العشرين بول كنيدي، وقبله الكاتب البريطاني الشاب (في ستينيات القرن نفسه) كولن ويلسون الذي ذاعت شهرته مع كتاب »اللامنتمي« واكتمل نضوجه الفكري مع كتاب »سقوط الحضارة«.
هؤلاء جميعا لم يستطيعوا الافلات من معادلتين وضعهما ماركس قبلهم بقرن من الزمان. تقول الأولى »ان انحدار قيمة العمل الانساني يزداد في علاقة مباشرة مع زيادة قيمة عالم الأشياء ـ السلع« وتقول الثانية »ان الديموقراطية الحقة تتطلب التغلب على الاغتراب بين الفرد والجماعة السياسية، عن طريق حل الانفصال الشبكي بين المصالح الأنانية للأفراد في المجتمع المدني والطابع الاجتماعي للحياة السياسية.
وها هي أزمة الرأسمالية العالمية كنظام تضع هذا النظام في حالة صدام، أو ارتطام، مع الحالة الثقافية الحضارية للفرد والمجتمع.
وعلى الرغم من سيطرة الاعتقاد بأن الثقافة الاميركية الراهنة هي ثقافة تهرب من الفلسفة حسب تعبير أستاذ الفلسفة الافروأميركي كورنيل ويست (١٩٨٩) إلا ان موضوع استمرار الحضارة الغربية الرأسمالية أو سقوطها لم يفلت من المعالجة الفلسفية من جانب المفكرين الاميركيين على اختلاف توجهاتهم المذهبية والمنهجية… أكثر بكثير من أقرانهم الأوروبيين. مع ذلك فالملاحظ ان الفلسفة الاميركية التي كانت لها السيادة على مدى قرن كامل تقريبا، وهي الفلسفة البراغماتية، التي ارتبطت بنمط التفكير الاميركي ارتباط السمك بالماء، قد انزوت كثيرا في السنوات العشرين الاخيرة. ويلاحظ أن سنوات الانزواء هذه كانت هي نفسها السنوات التي اشتدت فيها حاجة أميركا الى الفلسفة البراغماتية أكثر من أي وقت مضى.
وعندما أصبحت أزمة الرأسمالية العالمية ـ الاميركية بالدرجة الاولى ـ مشكلة أساسية ولم يعد بالامكان إخفاء الرؤوس في الرمال بشأنها، لم يظهر مفكر أميركي واحد ليعبر عن وجهة نظر براغماتية في الازمة.
إن التعبير الأبسط عن التفكير البراغماتي هو انه يقيس الحقيقة بمقياس نفعها، بمقياس جدواها ونجاحها. وبالتالي يمكن القول ان البراغماتية اعتبرت الرأسمالية النظام الحقيقي والابدي والافضل على مدى الحقب التي أثبتت فيها نجاحها وقدرتها. والآن ماذا يمكن أن تقول البراغماتية عن الرأسمالية وقد أصابت النظام الاقتصادي الاميركي بما يشبه الشلل وتركت الديموقراطية الأميركية في حالة احتضار كثقافة عامة.
لقد كانت »الرأسمالية الديموقراطية« تمثل فصلا طويلا ناجحا بصورة تفوق العادة في تاريخ الحضارة الغربية. والدليل الرقمي على هذا أن متوسط نمو الاقتصادات الصناعية الاميركية وغير الاميركية بلغ بنهاية القرن العشرين ثلاثة أمثال ما كان قد بلغه في القرن التاسع عشر. مع ذلك فقد شهدت الأعوام العشرين الأخيرة، التي تخللها سقوط الاتحاد السوفياتي، تغلغل حالة من التشاؤم الثقافي بشأن مستقبل الرأسمالية والديموقراطية معا لم يسبق لها مثيل على الرغم من رواج البورصات وارتفاع الاسهم … الخ. فقد كان الشعور الكامن في المجتمع فوق القشرة الإحصائية وفوق حالة الرضى القصوى من جانب الأقلية المفرطة الثراء هو انه مجتمع مفرط في الانغماس في المادية وفي المشاعر العنصرية وفي الاهتمام بالجنس وبكل ما هو حسي … مفرط في تطلعاته الامبريالية الخارجية وفي الفساد الداخلي والعنف العسكري الخارجي … مفرط في الإفلاس الأخلاقي بوجه عام.
هذه كلها تعبيرات ظهرت في كتابات المفكرين الأميركيين الذين ذكرناهم بين من نعوا النظام الرأسمالي مبكرا قبل وقت طويل من الازمة الحالية. لقد سادت اللاشعور الجمعي الاميركي ـ اذا استعرنا تعبيرا من علم النفس ـ قناعة بأن المصدر الاساسي لحالة التشاؤم الثقافي البادية على الاميركيين على الرغم من النجاحات المادية، الصناعية والتكنولوجية والمالية، هو الفساد المرئي في جوانب المجتمع المختلفة، وذلك الانزلاق السريع نحو الحرب كأداة أساسية للسياسة الخارجية على الرغم من الإخفاق المتكرر في تحقيق نصر حاسم والحصول منه على نتائج سياسية جوهرية…
[[[
ليس معنى ما نقوله أن الرأسمالية ستستسلم للهزيمة وللسقوط. إنها في الواقع لن تلقي أسلحتها للتو، انما ستقاوم وستتظاهر بأن الحياة تدب فيها من جديد. لكن الاحتضار ليس له نهاية إلا الموت.
أما الانتقال الى حضارة جديدة فإنه سيتجاوز زمنيا أعمارنا نحن الذين نعيش على كوكب الارض اليوم.
([) كاتب سياسي عربي من مصر