ياسين الحافظ بعد 30 عاماً على وفاته
يوم 28 / 10 / 2008 تحل الذكرى الثلاثين لوفاة الكاتب العربي السوري ياسين الحافظ 1930 – 1978 الذي كان واحداً من أبرز الكتاب العرب في القرن العشرين، وكاتباً من أصل مئة كاتب عربي اختيروا كأفضل الكتاب العرب خلال النصف الثاني من القرن الماضي.
يمثل منهج الحافظ ومنظومته الفكرية برنامجاً فكرياً وسياسياً ساهم في دعم الوعي العربي (أو حاول أن يساهم)، وإطلاق نهضته وتطوره. كما تميز بتقديم تقويماً دقيقاً لمرحلة النهوض الوطني والقومي التي بدأت منذ القرن التاسع عشر، وشهدت نجاحات وإخفاقات جمة. هذه المنظومة شأنها كبقية المنظومات الفكرية، كانت وستبقى عرضة لقراءات مختلفة، بعضها إيجابي، وبعضها سلبي ولكنها في كل الأحوال تعزز مكانتها. لكن ما يميز هذه المنظومة هي سعة ودقة معانيها وإن كان قلة ممن قرءوا هذه المنظومة أدركوا هذه المعاني ومفهومها الحقيقي، ورؤيتها للمستقبل.ولأننا لا يمكن أن نحيط بكل ما كتبه الحافظ ها هنا، و بمناسبة الذكرى الثلاثين لوفاته سنتطرق للمواضيع التالية.
1 – أن منظومة الحافظ جمعت في خمسة كتب، أطلق عليها، الأعمال الكاملة رغم أن كثير من المواضيع التي كتبها الحافظ لم تتضمنها هذه الكتب، حتى صدرت الطبعة الأخيرة عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 2005والتي ضمت كامل أعماله ما عدا التي أراد هو نفسه استبعادها.
2 – إن كتابات الحافظ اتسمت بشموليتها، فهو لم يكتب لحزب أو فئة أو طائفة لأنه نأى بنفسه عن أي انتماء سوى انتماءه للشعب والأمة.
3 – إن البعض أطلق على منظومة الحافظ، لفظة الترسيمة، وهي تسمية لا أعتقد أنها تعطي أو تحقق الشمولية التي اتسمت بها، بل تنزع عنها صفة التحليل التي ميزتها. فالترسيمة كما توحي التسمية، يمكن أن تقتصر على رسم الأهداف والشعارات، أما المنظومة فهي مجموعة المفاهيم وآليات تقويم عامة من جهة، وممارسة عملية من جهة أخرى. خاصة وهي تحلل تفصيلات الواقع مأخوذ وفق سير التطورات العالمية وليس مفصولة عنه. في هذا المجال تصبح المنظومة بمثابة نموذج بحثي تفصيلي مساحته العالم وخصوصيته، بقعة جغرافية لها مكانها فيه. تماماً كما هي الماركسية منهجاً لتحليل المجتمعات البشرية برمتها وليس لمجتمع دون آخر إلا في سياق خصوصياته.
4 – إن قراءة جديدة لفكر الحافظ ومنظومته متوافقة مع الزمان والمكان، هو أمر طبيعي، حرص الحافظ عليها دوماً كي تبقى هذه المنظومة حية، حتى لو وجد البعض أنها جاءت متأخرة. أو وجد فيها بعض آخر شيء من التجني في سياق ما تعودنا على أخذ الأشياء بثباتها وكأنها (تابو) لا تقبل المناقشة أو النقد والتطوير، لكنني أعتقد أن كل قراءة موضوعية لمنظومة الحافظ أو لغيرها، أضافت إليها عناصر هامة وعززت مكانتها وحيويتها، وهذه إحدى المعاني التي تميز بها الحافظ والتي كانت تدفعه دوماً لإعادة قراءة ما كتب وتدقيقها ومراجعة تجربته باستمرار. كما فعل في سيرته الذاتية التي تضمنت المحطات الفكرية والتجارب السياسية التي مارسها دون أن يدافع عن أية محطة أو يخفيها أو يخجل منها، وهو يدرك الآثار السلبية والانطباع السلبي الذي تتركه التغيرات الفكرية أو السياسية على حياة الأفراد في مجتمع متأخر، والصفات التي تطلق على مثل هذه التغيرات، حيث أن الانتقال أو التحول إلى إيديولوجيات مختلفة أمر غير مألوف وموضع نقد غير منطقي بينما كانت بالنسبة للحافظ ولنا أيضاً موضع فخر لأنها دليل على تطور الوعي وانتقاله نحو الأفضل. بل أن ثقته بنفسه ومنهجه كان يدفعه باستمرار لإعادة تقويمه واستخلاص ما هو سلبي وإيجابي منه.
منذ وفاته كتب عنه كثيرون، بعضهم بالغ في مدحه، والبعض بالغ في نقده، وهذه هي إحدى خصائص الثقافة العربية التي ليس لديها سوى اللونين، الأبيض أو الأسود تهرباً من الحوار الديمقراطي الذي يتطلب مزجاً للألوان وإعادة فرزها، هذا الحوار يفتح الباب للاحتمالات ويعزز مكانة الآخر كما يعزز المعنى الحقيقي للاختلاف أو الاتفاق. لكن جميع الذين كتبوا عن الحافظ أجمعوا على أن هذه المنظومة وبغض النظر عن أي اختلاف معها ماركسية كانت أم قومية، تسعى دوما لتعزيز الوعي العربي وتدعم نهضة الأمة وتطورها.
لقد تناولت منظومة الحافظ سلسلة من القضايا الهامة تتعلق بتجربة الشعب العربي، وجماع حركته، معاركه، وانتصاراته وإخفاقاته، تأخره، الاشتراكية العربية، الثورة القومية الديمقراطية ذات الأفق الاشتراكي، تجربة عبد الناصر، قوتها وضعفها، هزيمة حزيران وما آلت إليها أوضاع الأمة بسببها، حرب تشرين… الخ. هذه العناوين وضعت الفكر العربي والتجربة السياسية العربية في سياقها الموضوعي، لتأسيس رؤية فكرية سياسية لمستقبل هذه الأمة وآفاق تطورها. من منظور شخصي مفتوح للحوار والمراجعة. لذلك فإن مسؤولية قراءة هذه التجربة تقع على عاتق المفكرين والسياسيين الذين عايشوها وعاشوا فيها وعليهم أن يأخذوا دورهم في تحريك الوعي باغناء التجربة بحيث تؤدي إلى الدفع بحركة الواقع والأحداث، وتحريض النقلة النوعية واختصار الزمن. لا شك أن البعض قرأ تجربة ياسين الحافظ من هذه المنطلقات لكنها كانت قراءة غير كافية رغم مساهمتها الكبيرة في توضيح جوانب هامة منها. مثلاً قراءة السيد إسماعيل محفوض في كتابه (نقد التيارات الماركسية الحديثة) الصادر عن دار الحصاد عام 1999، ونحن بالطبع نقدر للكاتب الاهتمام والجهد الذي بذله في هذا المجال، ولكن ملاحظاته بقيت في إطار الشكل وناقصة في المضمون، خاصة وأنها اقتصرت على تحليل ما ورد في كتاب واحد وهو كتاب (الهزيمة والإيديولوجية المهزومة). أو فصل من الكتاب، مما أحدث انقطاعاً في مسيرة الحافظ الفكرية التي تطورت مع الزمن. وعندما نقول تحليل كتاب لا نعني أن الكاتب لم يقرأ بقية كتب الحافظ. في هذه المحطة التي يتناولها السيد محفوض أخذ على الحافظ، ” أنه لم يعالج على نحو دقيق وتفصيلي المحاور التي تناولها في كتابه المعني، ولم يحللها أو يضعها في سياقها التاريخي “. منها مثلاً ” إن المعالجة العسكرية لهزيمة حزيران عام 1967 لم تتناول على نحو تفصيلي تحليلاً للنتائج العسكرية التي ترتبت عليها، بل لا يوجد أي تحليل للعلاقة بين الأسباب المباشرة وغير المباشرة، أو تحديد العلاقة بين الهزيمة عسكرياً ومجتمعياً، ودور كل منها بالضبط في هزيمة حزيران “(ص 280).
إن الحافظ لم يكن محللاً عسكرياً أو يشتغل بالاستراتيجيات العسكرية وليس مطلوباً منه أن يأخذ هذا الدور، أو يتوجب عليه الدخول في تفاصيل المعارك الحربية، ونسبة القوى العاملة والاحتياطية وتحديد ساعة الصفر ونوعية السلاح المستخدم. وتحديد مقدار التغيرات التي حصلت في الاقتصاد العربي لحظة بلحظة منذ الغزو الاستعماري أو نسبة تأخر الفكر، وشكل المجتمع الذي نريده والديمقراطية التي نسعى إليها بشكل مسبق. تلك القضايا هي من مهام الاختصاصيين والأكاديميين وغيرهم، هنا نتساءل. هل كان مفروضاً علينا أن نحدد مسبقاً شكل الوحدة والديمقراطية التي نسعى لتحقيقها ونحن بعيدين عنها مسافة طويلة ؟، وهل نرفض أية وحدة أو ديمقراطية تتحقق على أيدي البرجوازية إن لم يحققها العمال والفلاحون ؟ وهل استطاع السيد محفوض أن يحدد شكلاً للقضايا التي أثارها من خلال الربط بين (الشكل والشكلانية وعدم الفصل بينهما).إن قراءتنا للحافظ قد تختلف في جوانب منها عن قراءة الكاتب، لكننا نثمن عالياً الجهد والمساهمة التي ساعدت على توضيح بعض من قضاياها وإثارة أسئلة حولها.
وكان السيد محمد سعيد طالب قد تعرض في كتابه (الحداثة العربية) الصادر عن دار الأهالي عام 2003، إلى نقد تجربة الحافظ، واتسم هذا النقد بكثير من الوضوح والموضوعية والرصانة بغض النظر عن بعض الاختلاف هنا وهناك، خاصة ما تعلق بموقف الحافظ من تجربة حزب البعث. حيث يقول الكاتب، (إن الحافظ ومعه الياس مرقص، تبنى مواقف عبد الناصر، في الوقت الذي يصب كل ما في جعبته من زاد ثقافي ضد حزب البعث وفكره ومفاهيمه وممارساته وتوجيه الاتهامات المقذعة إليه). دون أن نجد في هذه الجوانب أمثلة واضحة تؤكد ذلك. لكن الحافظ في نقده للتيارات التي أدت للهزيمة تناول تجربة حزب البعث أكثر مما تناول فكره ومفاهيمه، نظراً لأن البعث يتحمل مسؤولية تاريخية تفوق غيره بسبب الدور الذي وقع عليه في حماية الأمة من الهزائم. و الحافظ لم يدخر نقداً لتجربة عبد الناصر من زوايا عديدة لكن من موقع المساندة. أما استخدام مفردات من نوع اقتصادوية، وثقافوية، وتأخراكية، فلا نعتقد أنها يمكن أن تربك القارئ الذي يبحث عن المعرفة أو تشكل غموضاً له،لأن هذه المفردات استخدمت قبل الحافظ ولا زالت تستخدم في مجالات شتى. لكن الكاتب يعترف للحافظ بأنه ” ساهم ومن موقع أكثر التصاقاً بالممارسة السياسية في إغناء الفكر العقلاني النقدي ” (ص 183)، ” كما لعبت أعمال الحافظ دوراً ريادياً في نقد الماركسية المسفيتة، وإعادة الاعتبار للماركسية اللينينية كعلم وفلسفة ومنهج فكري بتعريبها وتوطينها كإيديولوجية قومية من قبل أحزاب قومية عربية ومن قطاع واسع من المثقفين العرب ” ص (184). فضلاً عما احتواه الكتاب حول الحداثة والتي تشكل نقلة نوعية هامة في نقد الحداثة العربية التي لم تستطع أن تخرج من إطار التقليد.
شكلت تجربة عبد الناصر في منهج الحافظ محطة رائدة، وهي كذلك بالطبع، وكان أكثر الذين أعطوها حقها. لقد حققت التجربة الناصرية إنجازات لا تحصى في المجتمع المصري الذي عانى تأخراً فكرياً وسياسياً وتخلفاً اقتصادياً، وعزلة قومية أحاطت به، لكن الحافظ لم يغفل أبداً غياب الديمقراطية في تجربة عبد الناصر والتي أدت إلى نكسات كبيرة، خاصة في تجربة الوحدة المصرية السورية، ومشاريع التنمية، ونكسة حزيران، لكن الحافظ لم يشأ أن يجعل من الديمقراطية وسيلة للهجوم على عبد الناصر كما فعل غيره، وهو أي الحافظ، السياسي المتمرس الذي نبذ غياب الديمقراطية في الحزب الشيوعي وحاول تكريسها في حزب البعث عندما صاغ المنطلقات النظرية للمؤتمر القومي السادس. لكن تجربة عبد الناصر مهما احتاجت من نقد، فإن هذا النقد لا يجب أن يصل إلى الهجوم والتجريح.
أما المحطة الأهم في فكر الحافظ فهي قضية الفكر القومي، والقومية والوحدة العربية. هذه المسائل التي ينكفيء عنها المثقفون والسياسيون العرب اليوم ويضعونها في سيق العنصرية والتعصب ويجعلون الوطنية نقيضاً للقومية. بل يذهب بعضهم إلى ألأخذ على العرب أيمانهم بأمتهم. هذه القضايا وضعها الحافظ في إطارها التاريخي وجعل من المشروع القومي الحاضنة السياسية لأهداف الأمة في التحرر والوحدة والتنمية. فالأمة العربية تقع ضمن الأمم التي تخوض صراعاً من أجل وحدتها القومية، هذا الصراع تصاعد مع تصاعد الكفاح القومي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وعلى ذلك ” فالقومية العربية لم تولد في السوق البورجوازية، كالقوميات الأوربية بل كانت نتيجة الكفاح المرير ضد الاحتلال والاغتصاب والهيمنة، وثمرة الشعور العام لدى العرب بالشعور المشترك، الضالع في بطن التاريخ الذي ولدت فيه هذه الأمة “. وهكذا فالقومية العربية في نظر الحافظ ” هي حركة الشعب العربي الهادفة إلى التحرر من البنية الاقتصادية والاجتماعية التقليدية، ومن النفوذ الاستعماري، وبناء مجتمع عربي جديد، ودولة عربية موحدة، فالوحدة العربية الديمقراطية، هي التجسيد الواقعي للحركة القومية العربية ” (حول بعض قضايا الثورة العربية ص 27). في هذا السياق فإن صراعنا مع العدو الصهيوني لم يكن صراعاً حضارياً، بل هو صراع تاريخي بين أمة عربية تسعى لتحررها ووحدتها ونهضتها، وبين عدو صهيوني غاصب احتل الأرض ويعمل على إجهاض النهضة.
هذه هي الأهداف التي ناضل وعمل من أجلها الحافظ وإذا كنا نتمسك بها علينا أن نعمل على تعزيزها ليس وفاءً للحافظ فقط بل من أجل الأمة التي ننتمي لها.
منير درويش
المصدر : (كلنا شركاء) 27/10/2008