صفحات مختارة

حلم النهضة التاريخي!

عمر كوش
يُرجعنا الحديث عن النهضة إلى السؤال الإشكالي المركزي الذي شُغِل به الفكر العربي الإسلامي منذ القرن السادس عشر، والمتمثل بصيغة: لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم؟ مع أنه سؤال صيغ بطرق مختلفة وعديدة، وظل يحلّق بلا محايثة أو أرضنة إلى أن أصبح العلامة المميزة للمأزق التاريخي، العربي والاسلامي، في العهدين الحديث والمعاصر. بالرغم من أن العرب يطمحون – منذ ذلك القرن – إلى تحول تاريخي عميق يموقعهم في حركة التاريخ الانسانية، ويمكّنهم من تحقيق المصالحة مع التاريخ، ومن صنع القرار والمبادرة، والاسهام في الحضارة الكونية كعنصر فاعل لا عنصر منفعل. لكن مع ذلك فإن النهضة بقيت كاسم اكتسب فاعليته بوصفه المخلص والمنقذ من حالة الفوات العربي، وحضرت دون الاكتراث بحقيقة وجوده أو عدمها. وسميت نهضة تيمناً، ومقايسة، بالنهضة الأوروبية المتحققة الوجود، لذلك حضرت النهضة عربياً، في أغلب الأحايين، كلفظ مبهم المركبات والتوظيفات والدلالات، بوصفها شيئاً لا يكتسب وجوداً متعيناً، إلا حين يُلحق بغيره، ولم نشهد حضوره إلا في أذهان من نظّروا له، ثم أضحت النهضة كل شيء ولاشيء.
إذاً، عنت النهضة خلاصاً منشوداً لم يتحقق وجوده بعد، لم يسعفها تحليق رواد النهضة في سماء الأفكار التي لم يستطيعوا أن يحطوا بها على الأرض، أي لم يُأقلموا المفاهيم التي أرادوا استثمارها وفق مكونات تربة الأرض الجديدة، فاكتست النهضة ثوباً ميتافيزيقياً، حاول الإصلاحيون النهضويون إلباسه للواقع العربي الإسلامي، كي يتحقق خلاصه من الفوات، ونهوضه من التخلف، ويلحق بركب حضارة الغرب المتقدم، فأنتجوا دعاوى فكرية تأسست على ثنائيات ميتافيزيقية انتظمت إيديولوجياً، ولم تقدم سوى تعارضات لا تاريخية راوحت بين المقايسة مع الغرب وتقليده، أو رفضه، أو التصالح معه، دون الالتفات إلى دراسة وتحليل الأسباب الكامنة لفوات الحاضر وتخلفه، فأحياناً جرى اللجوء إلى نقد الماضي باعتباره سبباً للتخلف، وأحياناً أخرى وجه النقد للتنظيمات العثمانية، أو إلى توقف الاجتهاد أو ما شابه ذلك، فيما غاب نقد الحاضر المعني بالنهضة عن أطروحات النهضة وأفكار روادها.
وقد عبّر معظم رموز النهضة عن هذا المأزِق التاريخي، وحذر بعضهم من أمثال فرانسيس المراش وسليم البستاني ومحمد عبده من العواقب الخطيرة التي تنتظر العرب والمسلمين إن لم يتيقظوا ويبادروا الى إصلاح أمورهم. لكن سبل النهضة والإصلاح المطروحة كان متباينة ما بين متشبث بالعودة إلى إسلام السلف الصالح، وبين داعية الى تقليد الغرب والاقتداء به، وآخرون لجأوا إلى التوفيق بوصفه الحل الأسلم والأنسب. ولم يعلم هؤلاء أن سلطان التاريخ والزمن أقوى منهم، وقادر على المكر بهم في كل لحظة. ذلك أن الماضي لا يتكرر ولا يُسترجع، والتاريخ لا يُستورد، إذ يستحيل الرجوع الى الاسلام الأول، ويستحيل كذك استنساخ النهضة الأوروبية. وعليه فإن ثمة خللا كبيرا بين الآمال والواقع، أي في تعامل العرب والمسلمين مع الحداثة، وفي تصورهم للاصلاح والنهضة.
والنتيجة هي أن الفكر العربي الحديث لم يكن “حديثاً” في علاقاته وآلياته، إذْ لم يكن معاصراً لحدث مثل الثورة الفرنسية الذي غيّر تاريخ فرنسا وأوروبا والمتوسط، بل نظر من كتب عن الثورة الفرنسية إليها كحدث ديني، لا كحركة اجتماعية وسياسية وفكرية، وتعامل معها آخرون على أنها هرطقة. وبالرغم من أن عبد الرحمن الجبرتي عبّر عن الارتباك والحيرة إزاء الصدمة التي أحدثتها حملة نابوليون على مصر، إلا أنه رأى فيها محنة وشراً، واختلال زمن، ولم تمكنه مرجعيته من استيعاب الظاهرة الحضارية الجديدة التي جاءت بها الحملة، والمتمثلة في علوم الفرنسيين وتفكيرهم وسلوكهم.
وبالرغم من تفاوت الأهمية العلمية لبعض الدراسات النهضوية من حيث تناولها النقدي وقيمتها المعرفية، ومساهمتها في فعل التراكم، واستثماره في الثقافة والاشتغال الفكري، إلا أن بعضها الآخر يغلب عليه طابع الاستعجال والاستسهال، فيغدو الأفغاني أو محمد عبده أو سواهم، تارة رائداً من رواد الفكر التنويري العربي والتحديثي، وتارة أخرى عقبة في وجه عجلة النهضة العربية التي كانت تسير بيسر وسلام، لولا المعوقات المتنوعة كالجهل والتخلف والظلام والاستعمار وغيرها. فيما تنقلب أغلب تلك الدراسات إلى شعارات إيديولوجية فارغة لا تنصف أحداً، ولا تقدم أية قيمة معرفية يمكن البناء عليها. وهكذا تعاد الكرة من جديد، حيث يُعاد طرح الأسئلة ذاتها، والأجوبة ذاتها في تواطؤ مكشوف، ثم يُعاد تعليقها من جديد في انتظار الحل الذي لا يأتي أبداً، ونلقي باللائمة على الدراسات غير النقدية التي لم تتمكن من الكشف عن مواطن التنوير وحيثياته، وعلى معوقاته كالاستعمار وأترابه.
والحق أن الزمن إن فات فإنه لا يسترجع، وإن لم يفهم على حقيقته في الحالة العربية، فإنه يكون سبباً من أسباب “العمى التاريخي” الذي دخل فيه العرب منذ القرن السادس عشر وهم يبحثون ويجتهدون ويختلفون من أجل “ربيع العرب”. هذا الربيع المنتظر لم يأت بعد، لأن هناك من يحاول قتل أية نسمة حرية أو نهضة حقيقية قادمة، كي يبقى الحاضر بانكساراته وانهياراته وأزماته إلى الأبد.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى