في معنى السلوك السوري
إلياس حنّا
يتميّز النظام السوريّ بصعوبة معرفة نياته السياسيّة، فعلى الآخر، ان يتكهن دائما وعبر التجربة بما عليه ان يفعله.
فعندما خرج الجيش السوري من لبنان، توّجه الرئيس بشار الاسد إلى السوريّين طالبا شدّ الاحزمة، لأن المرحلة الآتية سوف تكون صعبة. وفي الخطاب نفسه، وضع الامن القوميّ السوريّ، المحافظة على النظام، والوحدة الداخليّة، كأولويّة عليا للمرحلة المقبلة.
مرّت سورية بصعاب جمّة، خاصة في علاقتها بأميركا وفرنسا وغالبية الدول العربيّة.
مرّ الوقت، صمد النظام، وتبدّلت اوضاع المنطقة وظروفها، خاصة بعد حرب تمّوز على لبنان. فهذه الحرب قد ولّدت عبر نتائجها، واقعا جديدا لم يكن احد يتوقّعه.
اتت المفاجأة الكبرى بعد حرب تمّوز مع كشف موضوع التفاوض السوريّ الاسرائيليّ عبر الوسيط التركيّ. وتساءل الكلّ، كيف تختار سورية المقاومة كنمط تعامل مستقبليّ لتحرير الارض، وتُعلن انها حقّقت النصر إلى جانب حزب الله، وتكون فاتحة قنوات التفاوض مع العدوّ اللدود؟
باختصار، تلعب سورية اللعبة الواقعيّة ببراعة، وفي هذه اللعبة تكون المصالح القوميّة في أعلى ترتيب السلّم.
تميّزت المرحلة الاخيرة، في ما خصّ السلوك السوري، بالكثير من المؤشرات العلنيّة التي ترافقت مع وتيرة سريعة لتمرير الرسائل والمؤشّرات. وإذا ما جُمعت هذه المؤشرات، وبسبب غياب المعلومات الدقيقة، فقد يمكن تحليل الوضع، للخروج بصورة معقولة عن الواقع الجديد. فماذا عن هذه المؤشرات؟
* رسالة الرئيس السوري خلال القمّة الرباعيّة حول الطلب إلى الرئيس اللبنانيّ ارسال قوّة عسكريّة إلى طرابلس.
* تصريح الأسد، عقب زيارته روسيا بعد حربها على جورجيا، خاصة بعدما عبّر عن مفهوم مناطق النفوذ. وإذا كانت جورجيا منطقة نفوذ لروسيا، فلماذا لا يكون لبنان منطقة نفوذ لسورية؟
* بدء استقبال الأسد لقيادات سياسيّة لبنانيّة علنا، وذلك بعد الاعلان المشترك حول فتح سفارات بين البلدين.
* تصريح الأسد، حول الانتخابات المقبلة في لبنان، وكيف ستغيّر هذه الانتخابات الخريطة السياسيّة لصالح المعارضة الحاليّة.
* نقل نقيب المحرّرين اللبنانيين ملحم كرم عن لسان الأسد ان طرابلس هي مركز للارهاب التكفيريّ.
* وفي ظلّ هذا الخطاب، وقع تفجيرا دمشق وطرابلس، وصدر تصريح رسميّ سوريّ ان السيارة التي انفجرت في دمشق اتت عبر دولة عربيّة مجاورة.
* كذلك، ارسلت سورية الكثير من الرسائل غير المباشرة للمملكة العربيّة السعوديّة، كما مرّر وزير الخارجيّة السوري خبر ضرورة التعاون السوريّ اللبنانيّ الأمنيّ. * تُوّج هذا السلوك وال
خطاب، بنشر قوّة عسكريّة كبيرة قبالة الحدود الشمالية للبنان، لم تلبث أن امتدّت حتّى البقاع الشماليّ، وذلك تحت شعار محاربة التهريب، ومنع تسلّل الارهابيّين.
* أخيرا وليس آخرا، سُرّب خبر مفاده ان حزب الله قد منع قياديّيه من السفر إلى سورية.
تدلّ هذه المؤشرات على ان سورية اليوم هي غير سورية الامس. فما الذي اراحها؟ هل هو الشلل الاميركي العسكريّ، كما الماليّ؟ وهل اقتنعت اميركا بأن عزل سورية كلفته كبيرة؟ وكيف تغيّر ادراة ذاهبة بعد شهر، سياسة ضدّ سورية كانت قد اعتمدتها لأكثر من ستّ سنوات؟ فهل تحضّر الادارة الحاليّة الارضيّة في حال انتخاب ماكين؟ ام ان الادارة الحاليّة تحاول تعهّد الوضع وصيانته، وإدارة الازمة في انتظار فجر جديد مع الادارة الجديدة؟ وهل يُفسّر اجتماع المعلّم برايس هذه الافتراضات؟ كذلك، هل الربط السوريّ السلميّ مع اسرائيل، كما الشلل السياسي الاسرائيلي، شكّلا ضمانة لسورية كي تكون اكثر مُبادِرة؟
تدلّ هذه المؤشرات ان لسورية اليوم سياسة جديدة، تفعل ولا تردّ على الفعل. وإلا، فكيف يُفسّر النشر العلنيّ لهذه القوى، مع تغطية اعلاميّة مقصودة كي تصل الرسائل لمن يعنيهم؟ فهل تختبر سورية ردّ الفعل الدوليّ؟ ربما، لكن الجواب الدولي العلني أتى سلبيّا تجاه العودة العسكريّة إلى لبنان، وإلا فما معنى القرار الاميركي تزويد الجيش اللبناني طوّافات من نوع كوبرا؟
وإذا صحّت تحليلات الخائفين من العودة السوريّة العسكريّة إلى لبنان، فكيف يُفسَّر هذا الانتشار في ظلّ المصالحات الوطنيّة، وفي ظلّ حكومة وحدة وطنيّة، كما في ظلّ عودة المياه إلى مجاريها بين الرئاستين السوريّة واللبنانيّة؟
ويبقى السؤال، متى وكيف تدخل سورية إلى لبنان؟
تدخل سورية إلى لبنان عندما يكون وضع لبنان مماثلا لوضع الحرب الأهليّة. وعندما يكون هناك ضوء اخضر من القوى العظمى وخاصة اميركا. وهذا كلّه غير متوافر اليوم. فهل هناك تطوّر دراماتيكي سيحصل في لبنان في القريب العاجل؟ ام ان هناك تطوّرا دراماتيكيا سيحصل في المنطقة؟
لكن الجدير ذكره في سياق المؤشرات اعلاه، هو في ربط الانتشار العسكريّ السوريّ وكأنه متمّم للقرار الدوليّ 1701. وهذا امر جديد، إذ لا يمكن تطبيق القرار جزئيّا، وانتقائيّا. كذلك يقول القرار بوقف تسلّح حزب الله. فهل سيمتدّ الانتشار إلى الجهّة الشرقيّة للبنان، حيث ممرّ السلاح للحزب؟ هنا نحن في حاجة إلى مؤشرات جديدة لاكمال الصورة. وإذا كانت سورية تريد تطبيق القرار 1701 من الجهّة السوريّة، فهل ستفعل ذلك مجّانا ونحن الذين قلنا عنها انها الاكثر عقلانيّة بين اللاعبين، وإذا كان هناك ثمن فما هو؟ وماذا عن الموقف الايرانيّ من هذا التطوّر.
ولكن ماذا على الحكومة اللبنانيّة ان تفعل على الجانبين السياسي والعسكري ـ الأمنيّ؟
في الشق السياسي عليها أخذ التطوّرات بجديّة والتعامل معها بمستوى رسميّ رفيع. ويكون ذلك عبر الحكومة التي عليها رسم سياسة معيّنة تجاه التطوّرات، تكون قادرة على نزع الذرائع من يد ايّ كان. كما يجب على السلوك الحكوميّ ان يأتي ليطمئن سورية، الامر الذي يريح النفوس. على السياسة ان تكلّف المستوى الامنيّ ـ العسكريّ في لبنان، إجراء ما يلزم خاصة في المنطقة التي تخاف منها سورية، اي الشمال. وقد يكون من المفيد، ان تصدر الحكومة كتابا ابيض تفسّر فيه خطّتها حول التهديدات الارهابيّة.
أما في الشقّ العسكري ـ الأمني فيجب اعداد خطّة امنيّة استخباراتيّة، يكون مرتكزها منطقة الشمال. فتقسّم المنطقة مربّعات امنيّة تراقَب عن كثب. ويجب على الخطّة ان ترتكز على الناس في تلك المنطقة للحصول على المعلومات الدقيقة عن أي أمر مشبوه، خاصة ان الارهاب هو مثل الفطر يعيش على حساب المجتمع العادي. ويجب ان يكون هناك دور اساسي للمنظّمات السلفيّة غير التكفيريّة التي تتحدّث في خطابها عن لبنان الدولة. ويجب على هذه الخطّة ان تكون مدعومة بالقوّة العسكريّة التي بدورها يجب ان تكون مدعومة سياسياً.
عندها، سوف تتكوّن لدى الأمنيّين الصورة الكبرى في الشمال كما الصورة الصغرى، وهذا امر يجعل ممكنا استباق اي عمل ارهابيّ، ان كان في لبنان او سورية. وعند تحقيق ايّ تقدّم، يجب اعلانه على الملأ، لأنه سيكون رسالة دبلوماسيّة غير مباشرة، كما سيكون عاملا رادعا لكلّ خليّة نائمة.
لكن العمل الامنيّ، هو كلّ لا يتجّزأ، من هنا ضروة الخطّة الامنيّة الشاملة، من الشمال إلى البقاع وحتى بيروت والجنوب. وهنا يأتي دور الافرقاء المحلّيّين، وضرورة مساعدتهم لهذه الخطّة، خاصة حزب الله.
وأخيرا وليس آخرا، وإذا ابتعدنا عن نظريّة المؤامرة، فقد يمكن القول ان انتشار القوات السوريّة على الحدود الشماليّة، وعلى حدود البقاع الشمالي، وإذا كانت نوايا القيادات اللبنانيّة المتصالحة سليمة، سوف يُعزّز الوحدة الداخليّة. وفي حدّه الأدنى، قد يكون الانتشار مفيدا للبنان، كون الدولة السوريّة قد اخذت الأمر على عاتقها رسميّا وعلنا.
الشرق الأوسط