أوروبا إلى ضفّة أخرى في التعاطي مع سوريا واللبنانيون أمام امتحان »الأهليّة«
جورج علم
جاء في تأشيرة الدخول التي منحتها بريطانيا لوزير خارجيّة سوريا وليد المعلّم »أن لندن لم تعترض على الدور السوري الأساسي في الشرق الأوسط، لأن جذوره تاريخيّة، والمهم أنه يجب ان يكون إيجابيّا ويسير باتجاه خدمة السلام والاستقرار، مع الإقرار بأن لسوريا مصالح في لبنان، وعلى البلدين حلّ مشاكل الحدود وتهريب الأسلحة«.
… وأخيرا ستفتح لندن أبوابها اليوم أمام الوزير المعلّم على قرع أجراس ساعة بيغ بن الشهيرة، معلنة انتهاء فترة المقاطعة، وعودة الاعتبار الى الدور »الضاربة جذوره في عمق التاريخ« والذي تلعبه سوريا على مسرح الشرق الاوسط.
ويقرأ اللبنانيون في هذه الزيارة عناوين أربعة:
١ـ قرع أبواب واشنطن بصورة جديّة انطلاقاً من النظريّة الشهيرة »ان من يستطيع ان يصل الى العاصمة البريطانيّة يستطيع ان يصل الى العاصمة الاميركيّة، خصوصاً ان المحادثات التي أجراها المعلم مع زميلته كونداليسا رايس في نيويورك خلال شهر أيلول المنصرم كانت واعدة وفتحت الباب عريضاً أمام الحوار، وإمكانيّة تفعيله في المستقبل وفق متطلبات مصالح البلدين.
٢ـ ولا يقل العنوان الثاني أهميّة، إذ أن وزير الخارجيّة السوري سيبحث »كل شيء« مع المسؤولين البريطانييّن، والكلام هو للمتحدث باسم وزارة الخارجية البريطانية، باري مارستون، أي بقدر ما للندن من أولويات تريد أن تبحثها مع المعلم، فلسوريا أيضاً.
٣ـ أما العنوان الثالث فيندرج في خانة »حفظ الكرامات واحترام المقامات« حيث سارع رئيس الوزراء البريطاني الى الاتصال بالعاهل السعودي واضعاً إياه في أجواء الزيارة، بخلاف ما فعل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، بعدما قيل وتردد أن انفتاحه السريع على الرئيس بشّار الأسد قد فاجأ الرياض، وأدى ذلك الى فتور في العلاقات.
٤ـ ويبقى العنوان الأهم وهو موقع لبنان في خريطة التحالفات الجديدة ما بين لندن ـ واشنطن ـ تل أبيب من جهة، ودمشق من جهة أخرى، ومدى الإرتدادات الإيجابيّة ـ او السلبيّة ـ التي سيحدثها هذا الانفتاح الكبير على الساحة اللبنانية.
وتفيد المعلومات الدبلوماسيّة أن الانفتاح البريطاني على سوريا تأخر عاماً، والسبب ان وفدا بريطانيّا كان قد زار دمشق قبل سنة تقريباً، وطرح على المسؤولين السوريين عدداً من المواضيع المطلوب حسمها او التجاوب والتعاون على إيجاد الحلول لها مقابل ان تفتح الابواب الاوروبيّة ـ الدوليّة أمام دمشق للخروج من عزلتها، ومنها تسهيل انتخاب رئيس للجمهوريّة في لبنان، والتجاوب مع متطلبات القرار ،١٥٥٩ خصوصاً لجهة ضبط الحدود ووقف التسللّ، واحترام خصائص ومتطلبات السيادة اللبنانيّة، إلاّ أن المسؤولين السورييّن ردّوا يومها بغضب، رافضين إملاء الشروط، مؤكدين أنهم مع علاقات نديّة ولا يخضعون لأي شروط تفرض عليهم.
ودارت الأيام دورتها سنة كاملة، وقطف رحيقها نيكولا ساركوزي أبو الانفتاح الأوروبي على دمشق، وترك »حريّة التقليد« للآخرين من نظرائه الاوروبييّن وغيرهم، بعدما لمس ان سوريا قد تغيّرت أيضا ـ وليس الظروف وحدها ـ وما كان عندها من المحرّمات قد أصبح من المسلمات؟!
وقبل أن يبلغ هذا الانفتاح ذروته، زار بيروت على جناح السرعة وزير الخارجيّة البريطاني ديفيد مليباند، حيث قدّم التهاني باسم حكومته للعماد ميشال سليمان بعيد انتخابه رئيسا للجمهورية، ووعدنا يومها بمزارع شبعا، ونما الوعد باضطراد في مخيلة اللبنانيين انطلاقا من اعتقاد راسخ في وجدانهم وقناعاتهم (من الصعب تحديد صحته وجديّته) من ان بريطانيا تمون على إسرائيل، وقادرة على ان تتحدث معها بصراحة ومن دون قفّازات حريرية، كما أنها تمون على الولايات المتحدة لتحقيق هذا المطلب. لكن لا مزارع شبعا تحررّت، ولا ميلباند وفى بوعده، بل على العكس صدر بعد فترة من عودته من بيروت قرار عن الحكومة البريطانيّة يصنّف سلاح »حزب الله« بـ»الإرهابي«، مما أثار يومها عاصفة من التساؤلات والاستفسارات عن التوقيت والأسباب والخلفيات.
ولن يهدي اليوم وليد المعلم اللبنانيين مزارع شبعا من العاصمة البريطانيّة، هذا أمر غير وارد على الإطلاق، لا بل مفروغ منه، لكن بالتأكيد سيهدي البريطانييّن العلاقات الدبلوماسيّة مع لبنان، وسياسة الانفتاح التي دشنتها دمشق باتجاه بيروت بعد اتفاق الدوحة، ومفاعيله السحرية على الساحة لجهة انتخاب الرئيس، وتشكيل حكومة الوحدة الوطنيّة، وإعادة الرشاقة والحيويّة إلى المؤسسات الشرعيّة، هذا مع التأكيد الجازم بان لبنان لن يكون خلال المحادثات الرسميّة سوى مجرد عنوان مطروح في صلب جدول أعمال حافل بالمواضيع والاهتمامات المشتركة إن على مستوى الشرق الاوسط ام اوروبا او العالم.
والعبرة هنا كبيرة ومؤثرة، وقد جاءت من الفرنسييّن قبل ان ترد من البريطانيين، ومفادها ان الذين كانوا يحلمون في الماضي القريب بأن العالم لا يرتاح لأن لبنان غير مرتاح، يستيقظون اليوم على واقع مختلف تماماً. والذين كانوا يعتقدون بأن بلاد الهند والسند قد شهرت سيفها للدفاع عن لبنان، قد يصابون بصدمة عنيفة عندما يلمسون اليوم لمس اليد بأن زمن الأول قد تحوّل، وان أحدا لم يقاتل من أجل لبنان، ولا هو مستعد لنسف جسوره مع أي كان في العالم كرمى لعيون اللبنانيين، خصوصاً بعدما أصبحت المعادلة أكثر سهولة وشفافية وعنوانها: على اللبنانيين من الآن فصاعداً أن يقلّعوا شوكهم مع السورييّن بأيديهم، بعد تنفيذ اتفاق الدوحة بكامل بنوده، وبعد قيام العلاقات الدبلوماسيّة بين البلدين، وبعد إعلان دمشق انفتاحها الكامل على رئيس الجمهوريّة وحكومة الوحدة الوطنيّة، إن شاء رئيسها ذلك؟!
ويتولى فريق من الدبلوماسييّن والأكاديمييّن رسم خريطة مبدئية من وحي التطورات الأخيرة، وجولة منسّق السياسة الخارجيّة والأمن في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا في المنطقة والتي اختتمها بتشريع أبواب عموم أوروبا أمام دمشق بالآتي:
أولا: إن العلاقة ما بين لبنان وسوريا ستبقى موضع اهتمام من الجانب الأوروبي، لكن مع تغيير في الأسلوب وسلم الأولويات التي تقتضيها لعبة المصالح، خصوصاً بعدما انتقلت أوروبا من ضفّة الخصومة مع سوريا ومحاولات الحجر عليها وعزلها سياسيّا واقتصاديّا الى ضفة الانفتاح والتعاون معها الى اقصى الحدود، وفتح صفحة جديدة مختلفة عن السابق بكل المعايير.
ثانيا: إن أوروبا، ومعها العالم الحر، تخضع اللبنانييّن إلى »امتحان الأهليّة« بعد اتفاق الدوحة، وعودة المؤسسات الى طبيعتها، وذلك لمعرفة مدى قدرتهم، لا بل مدى قابليتهم واستعدادهم على إمساك زمام أمرهم بأنفسهم، والتكاتف والتضامن للنهوض بوطنهم، وتمكين الدولة برموزها ومؤسساتها من ترتيب اوضاعها و»تصفية حساباتها« بروية ومسؤولية مع الجار السوري، والعدو الإسرائيلي، مع التأكيد على أن الانتخابات النيابيّة ستكون استحقاقاً مفصليّاً لإحداث التغيير، والانطلاق بقوة، وربما بشكل أفضل نحو الأمام.
ثالثاً: إن ملفات حساسة كالمحكمة ذات الطابع الدولي، وسواها، قد مرّت بمراحل ومطبات كثيرة قبل أن تعود ثانية إلى دائرة الترقّب بانتطار الأجوبة الواضحة عن كمّ لا بأس به من الأسئلة، حول الظروف الدوليّة ـ الإقليميّة الجديدة، وطغيان لغة الأرقام والمصالح على لغة الأخلاقيات في الالتزامات، وهل خرجت من التجاذب الدولي ـ الإقليمي لتعود ثانية نقطة محوريّة في التجاذب المحلّي؟!
السفير