تغيير المعارضة أم تغيير المعارضة والنظام معا؟
غسان المفلح
السجون في النظم المستبدة خارطة طريق للمعارضة, تبدأ بالتنكيل والتصفيات السريعة والطويلة الأجل, وتنتهي بانتصار القوة العارية على المجتمع ككل, وتعقد معه سلاما مزيفا, مبني على نهبه وخوفه. لهذا دوما المعارضة في الداخل لها سمة البطولة والنبالة, وهذا أمر لا أعتقد ان هناك من يختلف عليه, بغض النظر عن هذه الأطروحة أو تلك, لهذا المناضل أو ذاك. اختلف مع المفكر السجين ميشيل كيلو قبل سجنه على بعض من مقولاته القومية, ولكن هل هذا ينفي عنه صفة البطولة? هذا ليس مدحا لأحد بل هو إحقاق حق, لأن من عرف السجن كغالبية المعتقلين وخرج منه وعمل ثانية بالشأن العام في داخل الوطن, وهو مدرك بأن السجن هو الخيار الأرجح لعمله هذا ثانية, هو فعل بطولة ولكنه ليس فعل تحد أرعن, هو فعل انهمام بالشأن العام والوطني. ومن الطبيعي أن يحاول من يخاف السجن ثانية أن يناضل تارة ويلتزم الصمت تارة أخرى أو يهرب, وأنا جربت كل الحالات. هذه المقدمة تقودنا إلى أن الحديث عن المعارضة من الخارج يبقى محفوفا بالمخاطر, والانزلاق الفردي أو الكتلوي نحو معايير تنظيرية تأخذ أحيانا حاجات العيش في مجتمع غربي, فيوسم الفعل بأنها ارتزاق, وهذا في جانب منه صحيح مئة في المئة لهذا من المهم جدا أن نقف مع أنفسنا موقف الذي يسمح بإيجاد عتبة نقدية دوما بين الفرد المعارض عموما والمعارض الذي له صفة الكاتب وخصوصا بين الفرد بوصفه احتياجات يومية. هذه العتبة النقدية تجعلنا نرى الآخرين بمنظار أكثر موضوعية, وتجعلنا قدر الإمكان بعيدين عن مجانبة بعض الحقائق لمصلحة حضور العيش ومتطلباته في مجتمع غربي. بالتأكيد كان الوضع بالنسبة لأي فرد يؤمن قوت يومه بشكل كريم في مجتمع غربي قبل أن يتفرغ لفعل معارض, أمر يجعله أكثر حرية في الاختيار, وأكثر نزاهة في تناول الفعل المعارض عموما. ويصبح النقد محمولا على مبررات ذات أفق موضوعي. المجتمع الغربي يصون كرامة المواطن عموماً, حتى لو كان بلا عمل! اللهم من هم في موقع المواصفات الشخصية التي تتصف بالطمع والجشع فاحتياجاتهم تكون غير محدودة. ولهذا غالبية المعارضين في الخارج لا يحتاجون كثيرا لكي يخافوا من الموت جوعا.
من هاتين المقدمتين نستطيع أن نطل على جانب مهم من الحاجة للديمقراطية بما هي تغيير للمعارضة والنظام معا, وليس للنظام فقط. لأن الديمقراطية هي انفتاح على أفق جديد وتنضيد جديد وعلى تفاعلات جديدة للمجتمع, وعلى توزع جديد للقوى والمصالح مهما كانت متنافرة, مهم جدا مقولة العيش في ظل القانون لكل تلك المصالح المتنافرة والتي لا يمكن أن تتعايش بدون دولة القانون, لهذا لا يمكننا الفصل بين الديمقراطية وبين دولة القانون. الفعل المعارض في هذا الزمن هو فعل استمراري, فعل تراكمي, وليس فعلا انقلابيا, يحتاج إلى حفنة من الانقلابيين وجريدة تنطق باسمهم (مخطط لينين التنظيمي) التغيير السلمي هو الذي يجعل أيضا كل المعارضين مجبرين على الانفتاح على بعضهم بعضاً, لكي يشكلوا كتلة التغيير الضرورية لحماية التغيير نفسه, وبالتالي المجتمع. وهذه الكتلة تحتمل أن ينضم إليها في سياق عملية التغيير كل من له مصلحة بالديمقراطية. ولكن هل الانضمام إليها يعني أن يفترض أي فرد مهما كان وضعه أو كتلة حزبية مهما كان حجمها, بأنها تستطيع قيادة هذه الكتلة لوحدها من دون فعل مؤسسي. ولهذا عندما تأتي الديمقراطية, يصبح عامل السجن غير قائم بالنسبة للمهتم بالشأن العام, ويصبح الفعل المعارض غير ذي معنى بالنسبة لمعارضة الخارج, بل تصبح كل معارضة الخارج قولا واحدا” بلا فائدة” والنظام المتغير تنضم تنضيداته للقوى الاجتماعية الجديدة في ظل الديمقراطية. ويتحول أعضاؤها بالضرورة إلى ملحقين بالتنظيمات العلنية في سورية الديمقراطية, ولأن التواصل والمصالح والسياسية والأهداف تكون قد تغيرت كليا. مثال العراق رغم كل سلبياته, أين هي ما كان يطلق عليها سابقا المعارضة العراقية, الآن أين ذهبت? لهذا يصبح القول أنه من المستحيل أن نجد معارضين على المقاس, أو نماذج متخيلة! نحن بشر ومنغمسون في الحياة, في الحزب الواحد يوجد المبدئي والانتهازي, البخيل والكريم, ويكون هناك الأناني والمعطاء, يكون هناك الدوغمائي والأكثر انفتاحا, هناك من يرى في نفسه قائدا أوحداً وهنالك من يرى في نفسه أنه لا يصلح أصلا لقيادة خروف صغير, أنه التنوع والتنويع الإنساني أصيل. في ظل هذا التنوع علينا إنتاج كتلة التغيير هذه والقبول بالحدود الدنيا للاجتماع السياسي هذا حتى تأتي الديمقراطية. كيف ستتعامل هذه الكتلة مع هذا التنوع الواقعي والحقيقي, هل تخفيه أم أنها تفتح حوله معارك ذات بعد شخصاني? هذه الكتلة تكون إحدى نويات الإفرازات الجديدة للمجتمع الديمقراطي المقبل, أليست هي جزء اصيل من بدايات التغيير السلمي الديمقراطي ومقدمته الكبرى? أستثني هنا بالطبع قوة الفعل الاستخباراتي للسلطات في اختراق الفعل المعارض, ولا أقيم لها وزنا كثيرا في تحليلي هذا رغم أهميتها, لأنها أيضا جزء أصيل من الفعل الاستبدادي لأجهزة القوة الأمنية, وستبقى مهما فعلنا! النظام يخترق عبر هذه الأجهزة بلدانا أخرى, كلبنان مثلا, فمن باب أولى أن يسعى دوما إلى اختراق من يهددون سلطته كما يرى هو داخل سورية. وهذه العملية أيضا تصبح نافلة بعد التغيير, ويصبح المخبر كما هو المعارض المخبر جزءا من التكوين الاجتماعي الجديد. لأن الديمقراطية فعل سماح أيضا, ما لم يكون الموضوع محكوما بقانون واضح, يطال الجميع وهذا أمر غير ممكن مطلقا في الوضعية السورية. لأن أجهزتنا الأمنية حماها الله كما يحمي سورية لديها عشرات الآلاف إن لم نقل مئات الآلاف من هؤلاء المخبرين, كحال الفاسدين الذين بات لدينا منهم ملايين, ماذا تفعل الديمقراطية الوليدة معهم? بعد كل هذه الافتراضات المبعثرة من هنا وهناك, ألا نستطيع القول أن الديمقراطية السورية والحاجة إليها بشكل ملح جدا يعتبر إنقاذا للمعارضة والنظام معا, وبالتالي للوطن ككل? ولافتراضاتنا هذه بقية حديث..
كاتب سوري
السياسة