أزمة المعارضة وخيارات التجاوز ( 2 – 2 )
بدر الدين شنن
جاء في نهاية القسم الأول من هذا المقال السؤال : لماذا المعارضة .. هل هي من أجل إحلال فريق المعارضة محل فريق السلطة ، من أجل إعادة اقتسام الثروة والسيادة على نفس أ سس البنية الاقتصادية الاجتماعية القائمة ؟ هذا المقال محاولة لتقديم الجواب .
للإجابة على هذا السؤال ، لابد من مقاربة المراحل التي مرت بها المعارضة ، وماتزال ، منذ أن ا ستدعى انقلاب 8 آذار 1963 وجودها . ولابد من أن يؤخذ بالحسبان ، انعكاس بنية النظام المتجددة المتنوعة وأهدافه على بنية المعارضة وأهدافها ، في مختلف مراحل الصراع المتواصل فيما بينهما .
لقد حددت تشكيلة القوى التي قامت بالانقلاب وأهدافها المعلنة ، حددت تشكيلة قوى المعارضة . فالانقلابيون ( البعثيون والناصريون والقومين العرب ) الذين أعلنوا أن هدف الانقلاب رقم واحد هو عودة الوحدة السورية المصرية ، التي نفذت في عهدها إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي وكانت الأجهزة المباحثية تهيمن عليها ، وضعوا المتضررين من عهد الوحدة مع مصر ، من البورجوازيين وملاك الأراضي والشيوعيين والأخوان المسلمين في خندق المعارضة . وقد أعيد تشكيل المعارضة بعد انقلاب حزب البعث على الناصريين والقوميين العرب والتفرد بالسلطة في تموز 1963 ، حيث انتقل الناصريون والقوميون العرب إلى صف المعارضة . ثم ’أعيد تشكيل المعارضة مرة أخرى بعد انقلاب البعثيين اليساريين في 23 شباط 1966 على القيادة القومية في الحزب الحاكم ، حيث انتقل ماسمي لاحقاً بالبعث اليميني ( القيادة القومية ) إلى المعارضة ، وانتقل الشيوعيون إلى مهادنة ومن ثم التحالف مع العهد الجديد ، وبذلك ولأول مرة في التاريخ السياسي السوري الحديث يمثل الشيوعيون بوزير في حكومة سورية .
ويمكن اعتبار الفترة من 8 آذار 1963 إلى 15 تشرين ثاني 1970 ، هي المرحلة الأولى الأكثر تعددية وغنى وديناميكية في تاريخ المعارضة السورية لحكم البعث . بل يمكن اعتبارها مرحلة تأسيسية أورثت الجيل الثاني من المعارضة طابعها .. وخصوصياتها .. وأمراضها .
بكلام موجز : إن القوى التي قامت بانقلاب 8 آذار 1963 ، كانت تمثل تحالفاً قومياً اجتماعياً اقتصادياً ضد حكم الانفصال ( 28 ايلول – 1961 – 7 آذار 1963 ) الذي فصم الوحدة السورية المصرية وأطاح بالتأميم والإصلاح الزراعي . ما بعد الانقلاب انقسمت القوى على خلفية قومية رداً على تكريس حزب البعث الانفصال والتفرد بالسلطة . ثم انقسمت القوى المعارضة لانقلاب 8 آذار بعد 23 شباط 1966 ، حيث ا ستمر الناصريون والقوميون العرب والأخوان المسلمون والبورجوازية وملاك الأراضي المشولين بالإصلاح الزراعي بالمعارضة ، بينما تحالف الشيوعيون مع عهد 23 شباط .
وقد ا ستمر هذا التحالف ، الذي فشل في الدفاع عن نفسه يوم 16 تشرين ثاني 1970 أمام انقلاب ” الحركة التصحيحية ” الذي قاده وزير الدفاع الفريق حافظ الأسد .
ما بعد ” الحركة التصحيحية ” ’أ عيد تشكيل المعارضة على خلفية مضمون بيان القيادة القطرية المؤقتة ” التصحيحية ” الذي وعد ببرنامج العهد الجديد ، بإقامة جبهة وطنية تقدمية ، وانتخاب مجلس للشعب ” برلمان ” وبإنفتاح اقتصادي ، وتأمين الاستقرار بالبلاد ، وعودة سوريا إلى دولة الوحدة العربية ، وتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي ، حيث التحقت الأحزاب القومية والاشتراكية المعارضة والشيوعيون ( حلفاء العهد السابق ) وأطياف البورجوازية بالحركة ” التصحيحية ” الجديدة .
الأخوان المسلمون تريثوا قليلاً ، ثم انطلقوا بحركات احتجاجية حول دين الدولة ودين رئيس الدولة في مشروع الدستور المقترح للإستفتاء .
بعد إصدار الدستور وميثاق ” الجبهة الوطنية التقدمية ” وتكريس حزب البعث ” قائداً للدولةوالمجتمع ” انسحب الناصريون ( الاتحاد الاشتراكي ) من التحالف مع النظام . إبّان تلك الفترة انقسم الحزب الشيوعي السوري إلى حزبين . وما لبث الأمر ، أن تحول أحدهما ( الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي ) إلى المعارضة . ومنذ أوائل السبعينات من القرن المنصرم بدأ يتبلور تحالف جديد ، تكون لاحقاً من حزب الاتحاد الاشتراكي والحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي وحزب العمال الثوري وحزب البعث العربي الاشتراكي الديمقراطي ( 23 شباط ) وحركة الاشتراكيين العرب ، الذي ظهر للعلن با سم ( التجمع الوطني الديمقراطي ) عام 1979 وبشكل لافت حين طرحه بيان آذار عام 1980 الشهير إبّان الأحداث الدامية المدمرة آنذاك ، الذي وضع التجمع في موقف المعارض للنظام ولممارساته القمعية العنفية ، ومطالبته بالحل الديمقراطي لمعالجة الأزمة العاصفة بالبلاد .
صحيح أن السقف المشترك ، المستبطن أو المعلن ، لمختلف تيارات المعارضة ، كان ا سقاط السلطة ، لكن دوافعها الأساسية .. خلفياتها .. كانت هي مصالحها الاقتصادية والاجتماعية . كانت المواقف الجدية تتمثل .. مع التحولات الاجتماعية الاقتصادية أوضدها .. مع الإطار الوطني أو القومي الضامن لهذه التحولات أو ضده . وكانت السلطة هي الأداة المطلوب الاستحواذ عليها ، لتحقيق هذه المصالح بهذا الاتجاه أو ذاك .
وقد جسدت تفاعلات وأحداث السنوات ما بين 1970 إلى 2001 المرحلة الثانية الأشد إرهاقاً ودموية وآلاماً بالنسبة للبلاد وللمعارضة .
ومنذ أن تسلم الرئيس الحالي ” بشار الأسد ” الحكم دخلت المعارضة بالمرحلة النوعية الثالثة في مسارها الطويل . لم يتبدل تشكيل المعارضة ، أي لم يحدث تبديل في الاصطفافات ، وإنما حدث تبدل نوعي أقل إرهاقاً في تعاطي النظام مع المعارضة . وحدث تطور ذاتي ، فكري إلى حد ما ، وسياسي وتنظيمي بشكل عام في صفوف المعارضة ، فقد أضافت كل قوى المعارضة ” الديمقراطية ” إلى مسمياتها وبرامجها وشعاراتها مع الحيثيات المسوغة لهذه الدمقرطة . وتموضع عدد من قوى المعارضة في الداخل بإطار ” إعلان دمشق ” وفي الخارج بإطار جبهة الخلاص . بيد أن السمت المشترك بقي واحداً ، لكنه يتراوح ما بين التغيير الديمقراطي وبين التغيير بوسائل أخرى .
اللافت في المرحلة الثالثة ، أن قوى المعارضة بشكل عام ، أصبحت أكثر تجانساً اقتصادياً واجتماعياً . وا ستقرت على الخيار الرأسمالي وأبنيته الاقتصادية والاجتماعية . وحذفت بعض القوى ذات الماضي ” اليساري ” حذفت الاشتراكية من شعاراتها وبرامجها ، ولم تعد مجتمعة تضع في مطالبها وأهدافها تغييرات اجتماعية اقتصادية ، مخالفة جذرياً للأوضاع القائمة ، وإنما تطرح تغييراً سياسياً ينطوي على انفراجات في المجالات المعيشية . ما يشي ، رغم الهجوم الناري دائماً على طواقم النظام الأمنية الحامية للإستئثار بالسلطة ، بحدوث تقاطعات اقتصادية اجتماعية بينها وبين النظام .. لاسيما في ما يتعلق بتحولات اقتصاد السوق الحر .. أو ما يسمى بالليبرالية الاقتصادية .. مشفوعة بأمنيات ا ستكمالها بالليبرالية السياسية . بيد أن أزمة الرأسمال المالي العالمية وانكماشات اقتصاد السوق الحر .. وا ستحقاقات التعددية القطبية الدولية ، التي برزت من خلال جملة أحداث لافتة في الخليج وأمريكا اللاتينية والقوقاز وشرق آسيا ، قد جمدت هذه التقاطعات ، ليبقى شعار التغيير السياسي هو المتاح في التعبير عن الحراك المعارض .
وكيفما تم ا ستعراض سيرورة المعارضة ، لاسيما منذ أوا سط المرحلة الثانية وامتداداً للمرحلة الثالثة الراهنة ، فإن السمة البارزة فيها ، أنها تحمل معنى أكثر من مفهوم سياسي . أي أكثر من مجرد صراع سياسي بين فريقين متجانسين طبقياً واجتماعياً على السلطة – مثل حزب الشعب والحزب الوطني في سوريا سابقاً وجمهوري ديمقراطي في أمريكا وعمال محافظين في برطانيا – وهذا المعنى تحديداً هو الذي لم تأخذ به جدياً المعارضة . والذي كان يتطلب الارتقاء بالمعارضة إلى مستوى نمطي ” شامل ” يكون ندياً مكافئاً للنمط الشمولي للنظام ، أي أن تشمل برامج صراعها مع النظام الأبعاد الوطنية والديمقراطي والعدالة الاجتماعية والهموم المعيشية المباشرة للطبقات الشعبية . بمعنى أن تكون بديلاً مغايراً شاملاً للنظام على مختلف المستويات . وهذا هو المفهوم الشعبي للمعارضة . وهو المعيار الذي يحدد الشعب على أ ساسه موقفه من القوى المعارضة .. أي حسب مدى اهتمامها بقضاياه التي يخسرها مع النظام ، ومدى مصداقيتها بتقديم بديل مغاير ..
.. وهنا يكمن جوهر الجواب على سؤال لماذا المعارضة ..
لقد مرت أحداث خطيرة جداً في المحيط السوري وخاصة في العراق ولبنان . وقد انعكست ، وماتزال ، ضغوطاً وتهديداً للكيان الوطني . وكان من المفروض أن تلعب المعارضة دوراً أكثر مطابقة وشفافية إزاء هذه الأحداث . لكنها وضعت الصراع مع النظام وعدم إغضاب الخارج معياراً وحيداً لتحديد مواقفها من تلك الأحداث . وخاصة موقفها من المقاومة في العراق ولبنان ، ما أدى إلى إحداث مسافة بينها وبين جماهير الشعب التي كانت تتألم لما يلحق بالبلدين الشقيقن من قتل ودمار وتتعاطف مع المقاومة فيهما ..
كما مرت أحداث مؤلمة هامة في البلاد ، كانت تشكل فرصة لانتزاع المبادرة من النظام ، وتمد جسراً من الثقة بين المعارضة وبين الأكثرية الساحقة من المواطنين لجذب الملايين إلى المعارضة ، وذلك عندما انفلت وحش الغلاء من عقاله متسبباً بمجزرة معيشية للطبقات الشعبية ، وكذلك عندما باتت الخصخصة ورفع الدعم عن بعض المواد التموينية والمحروقات باتت مجال تداول وممارسات وقحة ، تمهيداً لاقتصاد السوق الحر أو ما يسمى بالليبرالية الاقتصادية ، التي تنتزع اللقمة من أفواه الأطفال وتكرس وتوسع دائرة الفقر لتكديس المزيد من الثروات في جيوب أهل النظام وحلفائهم . لكن المعارضة لم تبادر . بينما حركة كفاية المعارضة في مصر بادرت إبّان ا شتداد أزمات المعيشة ، وخاصة أزمة الرغيف ، ونزلت إلى الشارع دفاعاً عن لقمة ملايين المصريين الفقراء . وكذلك حدث في اليمن والمغرب وتونس والأردن وغيرها ..
وهذا يدل بوضوح على أن المواطن العادي يتطلع إلى تغيير أوسع وأعمق مما تطرحه المعارضة . فالمواطن ، بكثير من الصراحة الموضوعية ، لايختزل تطلعه للتغيير بتبديل بشار بعمار أي زيد بعمر ، سيما إذا كان البديل صنو ” الأصيل ” بأفعاله قبل ا سمه والمسمى عليه . وإنما يريد تغيير النظام بكل مضامينه السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. يريد حرياته السياسية الديمقراطية ليختار حكامه وقياداته الحزبية والنقابية والتمثيلية الأخرى بإرادته الحرة ، وليقرر كما يريد هو خياراته
الاقتصادية والاجتماعية . وهو عندما يتمتع بكامل حرياته لايخطيء الدروب
وحسب الحالة السورية المركبة والمربكة . فإن خيارات المعارضة محكومة بهذه الحالة . ومحكومة بآليات منبثقة من خصوصيتها ، أكثر مما يمكن عليه القياس في مثال أوكرانيا وتشيكسلوفاكيا ولبنان والعراق . وعند ا ستيعاب هذه الحالة جيداً بعيداً عن التأثر بالخارج وبنماذجه في التغيير ، فإنه ’يفهم أن الاستبداد لايصنع معارضة ضده ، أي لايسمح بوجودها ، ويحاول عندما تتشكل رغماً عنه أن يضربها .. يسحقها وهي في مهدها . وعندما تقاوم وتستمر ، يحاول أن لا تنمو النمو الطبيعي الصحيح ، وذلك من خلال حصارها وتحديد سقفها ، باللعب حسب القواعد التي يختارها هو . من هذه القواعد ، الاستدعاء الأمني ، الاعتقال ، والمحاكمات التعسفية ، التي تتحول لدى المعارضة إلى هم رئيسي ويكاد إعلامها يتمحور حولها ، وإطلاق بالونات كاذبة حول الإصلاح ، وحصر السجال في الفروع وليس الجذور ، بالدوران حول الفساد وممارسات الفريق الاقتصادي ، وإجراءات اللبرلة للاقتصاد والأسعار والمؤتمرات الاستعراضية وتبادل حملات التشهير والتشويه الإعلامية . بمعنى جر المعارضة إلى الصراع الثنائي بعيداً عن المساحات الشعبية .. و’يفهم أن حسم الصراع مع الاستبداد ، يتطلب نهجاً سياسياً نضالياً ، يقوم على الربط الجدلي بين السياسي والاقتصادي والعدالة الاجتماعية .. نهجاً يتدرج ، حسب الامكانيات المتاحة والتي تتطور من خلال الإبداع الشعبي ، إلى الإضراب السياسي فالعصيان المدني ، يرفق ببرنامج عمليات شبه يومي ، ينطوي ، إلى جانب المسائل السياسية ذات الصلة بالتغيير الديمقراطي الأساسية ، ينطوي على هموم الشعب المعيشية والتصدي لما يسمى اقتصاد السوق الحر ، وطرح بدائل اقتصاد اجتماعي تلبي الحاجات والخيارات الوطنية المطابقة لاستحقاقات التنمية وتوفير العيش اللائق لكل أبناء المجتمع . مامعناه .. ضمان حل أزمة الاختناقات المعيشية الراهنة وضمان مستقبل مغاير لما يخطط له جلادو الاقتصاد مع جلادي القمع السياسي . ويتطلب ذاتياً ، وحدة القوى المعارضة التي تؤمن بقناعة راسخة بمثل هذا النهج ، وإعادة هيكلة المعارضة ديمقراطياً ، وإطلاق مبادرات لبناء بدائل للهيئات التمثيلية ، التي يحتكرها النظام بقوة القانون القمعي ، والبحث عن آليات لإطلاق أنشطة اجتماعية وثقافية ينبغي أن تفضي إلى بلورة قيادات متجددة باستمرار قادرة على جذب أوسع فأوسع القوى الشعبية للحراك المعارض
إن فراغ القيادة المحورية ( الكارزمية ) والحركية ، التي تمثل القيم الوطنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، الجاذبة للقوى الشعبية ، هي أضعف حلقات المعارضة
وهذه القيادة لايمكن توفرها من خلال العلاقات العامة . وإنما من خلال المبادرات في اللحظات التاريخية المصيرية في حياة الشعوب .. مثل حالات العدوان الأجنبي على الوطن ، أو انفجار صراعات طبقية حادة ، أو غليان شعبي حاد من سطوة الاستبداد .. وكل هذه الحلات متوفرة في سوريا .. وهي تبحث عمن يملأ هذا الفراغ
الحوار المتمدن