سورية قضية ماض أم محنة حاضر! السلفية المعارضة المخابرات
حبيب صالح
من سخرية القدر ومفارقاته أن يتهيأ للعرب أنهم يدخلون الألفية الثالثة والقرن الأول منها كما يدخلها العالم المتمدن أو العالم الديمقراطي!
فالعرب والمسلمون يترعون الكؤوس المرة, وهم عائمون فوق موروثاتهم السلفية وهزائمهم المقيمة! ولازالت شعوبهم تجتر وتختزل مجدها المشرق التليد من حضارتها في الشعر والفروسية والفتوحات!!!
العرب والمسلمون حالهم حال العوانس التي تاهت أحلامها بين شرف حفظته في صباها فلم يسعفها في عنسها, بعد أن نشأت أجيال جديدة, وبعد أن دار الزمن اللعين دورته, فاستدارت تغدق العروض على من هجروا وارتحلوا وأشاحوا !
العرب والمسلمون هزموا في صراع البقاء والارتقاء, فتحول ذلك إلى متاهة تاريخية يجري استنساخها جيلا تلو جيل!! وتخلفوا عن ركب العلوم, وعاشوا تحت خط التحدي, وأغرقوا في تيه الشعارات, ودعاوى المجد التليد ونداء الآمة التي أخرجت للناس وإشكالية أحاجي الخلف والسلف! شدهم ذلك الماضي فتاهوا فيه, بعد أن كان معينا خالدا أرسى أسسا لأصولية متجددة متغيرة. ولكن المجددين قتلوا أو ماتوا!! فانكفأوا إلى الخلف كاظمين يطالعون سير التاريخ, قصصا, مجردا من مكوناته وعوامل بناءه! واستكانوا إلى ماضيهم! يتيهون عن مواجهة مستقبل مضن وجامح, مفتوح على كل الاحتمالات, لا يمكن إلامساك بنواصيه!!
في سياق هذه الأحوال, قاومت القاعدة الكبيرة من المسلمين والعرب في كل مواقعها الصيغ المنهجية والبنيوية ذات الجذر الديمقراطي, لتشذيب بناها وهياكلها المجتمعية, وأنكرت بضراوة العلمنة والعصرنة! وصنفت إشكالية الجذر الحضاري معادلا للكفر والإلحاد والخروج على النص, ومحاولات اقتلاع الجذور والهوية!
وفي سياق هذه الأحوال ذاتها ضاعت كل المحاولات المدرسية والفردية الرائدة لإطلاق مدارس ومناهج نهضوية للمجتمع الإسلامي والعربي! وصولا إلى فصل الدين عن الدولة, وقطع الطريق على ولاية الفقيه أو إقامة الخلافة!
وفي سياق هذه الأحوال نشأ لدى العرب مناخ من “العنس التاريخي” “والوهم القدري” و”الوهن البنيوي” و”الجدب الاجتماعي” فاستكانوا لمعظم موجات الاحتلال والاجتزاء التي تعرضوا لها! بل أنهم في معظم الأحوال انخرطوا فيها, أو أنهم عادوا إلى التاريخ يقرأون فيه ارتهانهم الماضوي, ويستكينون فيه إلى “أقدارهم” يستمطرون طيرا أبابيل ترمي أعداءهم, وتمدهم بنصر واعد دون قتال! فارتعشوا لمتعة الاستكانة, واطمأنوا إلى سلامة البقاء, التي تحولت من غريزة إلى نمط للعيش ومصير يفزعون إليه على حساب كل شيء! وسادت بينهم القيم الذكورية, والعزل الاجتماعي, وتأصل مفهوم الفتوى وتكفير الآخر،والإقصاء الديني وتراجعت الطبقات الشعبية إلى إرثها العشائري والطوطمي, وانهال الناس على أماكن العبادة, ومواقع التقديس الملي, وساد السحر والشعوذة, وأنفق الناس دخولهم المحدودة ومدخراتهم على التوسل وقراءة المستقبل, بدل أن يصنعونه صنعا ويقتحمونه خيارا! وأمعن الناس في نفورهم عن اكتساب قيم سياسية تحول بينهم وبين البقاء رعايا في منظومة السلطة وأطرها…!
فتأصلت الفردية على حساب الجماعة, والقبول بما هو (مكتوب ) والصمت عما هو قائم أو المغالاة في ارتداء الحجاب وإطالة اللحى وصباغتها وتعليق الصور والعزوف عن السياسة والموالاة دون المعارضة, والذاتية على حساب الآخر, والماضي الذي نسجه الأجداد, بديلا عن المستقبل الذي لم يسع إليه الأحفاد عبر أطر أو في منظومات وطنية معصرنة وحداثوية!…
كذلكم هي المعارضة!
فلا تخافوا عليها من إرهاب المخابرات! بل خافوا عليها منها، خافوا عليها من معاركها الدونكيشوتية الواهمة, خافوا عليها من ماراتونات السباق للوصول نحو الأنفاق, خافوا عليها من معارك آكلة لحوم البشر, المتشوفون على كل المزابل, الطاعنون بشرف الآخر عند كل المنعطفات! المتبروظون من ذوي الخطابات الرمادية، المنتسبون إلى كل المسميات! لا لشيئ, إلا لتسويق أسمائهم, المنبطحون خلف القضبان والردهات, المتعملقون على جدران السلطان! المصنفون الناس طبقا لطوائفهم على مقاييس المعارضة والموالاة، حيث تفصل تهم القومية والمعارضة والعمالة! المتسلقون لقامات الآخرين لا لشيئ سوى اقتناص أدوار البطولة التي لم يولدوا لها, ولم يمتهنوا صناعتها يوما! وهم معارضون لأنهم من “ولدوا فيضا من طوائف الرحمن” أما معارضو طوائف “السلطان “فهم مخبرون “ولدوا حيضا من رحم الشيطان”!!
هؤلاء هم “المعتوقون” المولودون من صدأ الحكايا العتيقة، لا المنعتقون من براثن المباذرات في أسواق العمالة السلطوية الاستخبارية، دعاة الدفاع عن الحقوق والضيوف الدائمون على مداخل الانتظار الأمنية، من مهند خشبي مطواع مغمود شلو من غلمانهم، إلى معتوق يبيع الصدأ والصدى وقبض الريح! فما ربحت تجارتهم، وما باعوا إلا بخسا!!
المعارضة في المبدأ هي فعل اختيار وفعل حرية؟
أما في الفروع والهوامش المقابلة فهناك تقبع كل أدوات الشر:هناك القوانين الجائرة والصارمة، وهناك منظومة قوانين الطوارئ الوضعية والموروثة وهناك الإقصاء والقمع والقتل، وحد السيف، وحد المذاهب والأصوليات وحتى تنتهي الحدود!
وهناك المخابرات أقدمت على تنازلات شكلت انقلابا منيعا ضد احتمالات قيام العقد الاجتماعي، وذلك عندما تراجعت، “دستوريا” في قضية النص الدستوري مساومة حول مذهب رئيس الدولة ومسائل أخرى!
لقد لجأت المخابرات إلى متاهات المساومة الوطنية تحت ضغط ابتزاز الفرز بين من هو مسلم ومن هو “زنديق” ثم لجأت إلى طفرة في بناء المساجد ومعاهد تحفيظ القرآن، في صفقة رشوة مكشوفة عارية، تحصد الوحدة الوطنية نتائجها اليوم، وسوف نستمر في الحصاد أجيالا!
كانت المخابرات قد أقصت كل القوى المدنية والعلمانية في سورية عن العمل العام، وأقصت الأحزاب الوطنية والماركسية أيضا! مما جعل الساحة ساحة مفتوحة للصراع الأصولي المخابراتي
وساحة عمل ميليشاوي، الخاسر فيها هو الوطن! وعندما جاءت أحداث عام1977 ثم احتلال بيروت عام 1982، والصراع ضد النظام العراقي يوم ذاك وتمهيدات النظام العربي بكامله ضد العراق ونظامه والتي أدت وأنتجت ومهدت للاحتلال الأمريكي للعراق، حيث كان النظام العربي شريكا فاعلا في عزل العراق وأرضه وشعبه والمسؤول عن كل الدماء التي سفكت فوق تراب العراق بالشراكة مع الولايات المتحدة، وانعكس ذلك كله وما قبله على ساحة الوطن السوري الذي أنتج تحديين أساسيين لقضية المواطنة والخيار الديمقراطي :
1. تحدي المواطنة وإشكالية الإسلام والإيمان،2. وتبين أن الفريقان يطلقا الرصاص على الوطن والوطنية،3. فالذين نزلوا إلى الشارع لجأوا إلى البندقية،4. ورفعوا شعارات التكفير،5. والإقصاء التي حفل بها تاريخنا الإسلامي وشكلت سمة إسلامية فتوحية لهذا التاريخ على امتداده!
6. مع التذكير أن المخابرات ظلت تمارس السلطة الفعلية،7. كانت قد جاءت إليها بدعوى مشروع وطني قومي وسياسي! وهي شرعت لنفسها مفاعيل الشرعية الثورية عبر حالة الطوارئ وعسكرة المجتمع وأعطت لنفسها حق استصدار الصكوك الوطنية،8. والاشتراكية،9. والعروبية،10. ولم يكن لها ذلك الحق أو جزئه فضلا عن ذلك أنها في تكوينها سلطة معسكرة غير دستورية،11. لا يعطيها تكوينها أو نهجها أو أسلوب وصولها إلى السلطة أي حق أو امتياز تاريخي أو دستوري،12. تماما كما التكفير والفرز المذهبي والوكالة عن الله ورسوله،13. هرطقة وارتزاقا إيمانيا،14. لا يصح أن يمارسه أحد امتيازا أو خصوصية،15. ولو كان ذلك يصح في أي ظرف لكانت دعاوى اليهود ودعاوى كل الأعراق والأديان من ذوي الدماء الزرقاء ودعاوى الذين “يخلقون فيضا” ودعاوى من “يخلقون حيضا”،16. مما جعل ستة مليارات من البشر اليوم،17. من غير المسلمين إنما عصوا الله في أرحام أمهاتهم وخلقوا “كفارا” بدون مشيئة الله! الذي شاء أن يخلقهم “مسلمين”الإنسان يولد “مسلما” وأبواه يهودانه أو ينصرانه “… “ويولد في رحم أمه “مسلما” حتى لو كان والداه بوذيان أو مسيحيان أو يهوديان”-تصوروا أن إرادة الله في خلق البشر مسلمين يتمكن الأبوان من إلغائها!!! تصوروا أن الحجاج يؤدون فريضة الحج على طائرات من صنع أوروبي أو أمريكي (كافرين) ويتحدثون من هواتفهم الخلوية التي صنعتها “نوكيا” الكافرة,وهم في مناسك الحج! ثم ينقلون الصلوات من المسجد الحرام إلى جميع أنحاء العالم عبر فضائيات هي من صنع (كفار) ولا يتعاملون في كل ذلك إلا بالدولار (الكافر) ولا يجرون عمليات الاستشفاء الخاصة إلا في مشافي الغرب”الكافر” كذلك هو كل شيء في حياتنا اليوم! وميكرفون المسجد الذي يوصل نداؤه بالكهرباء التي اخترعها أديسون والطابعة والكمبيوتر والإنترنيت والفضاء والأقمار الصناعية! فضلا عن النفط الخام الذي يكرر ويصفى بعلوم الكفرة!
هذا محال أن ترتبط حياتنا وحاجاتنا وشعائرنا بوسائط الآخرين ونستمر على سلفيتنا بتكفيرهم.. والإدعاء أنهم هم الجهلة ونحن العلماء هم أهل دنيا ونحن أهل آخرة…حتى ولو كنا نشتري طائرات الركوب الخاصة وننعم بركوب أفخم العربات وننام في فنادق النجوم الستة…ونسهر في الجزر النائية..ونرقص في سوهو ونلتقط صور الغرام في البيغال!!…سلفية يائسة جبرية وتراث هجين! وثورة عقل عربي عجزت ثورات التكنولوجيا وإضافات العصر أن تفجر فيها النبضة الأولى أو تلهمها الخلية الواحدة!
لو كانت تلك الفرضيات السلفية كلها مسلمات لكان الله هو الغريب الأوحد بين خلقه، وقد خلقهم شعوبا وقبائل في منظومة تكوين ونشوء وارتقاء، وتجدد ودثور واحدة يموتون ويولدون ويتغوطون ويتناكحون في منظومات بيولوجية واحده! ويقول القرآن الكريم”من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” أفتكرهون الناس على أن يؤمنوا” ولو صحت دعاوى طرف في نقيض ما ينص الكتاب عليه في حرية العقيدة لكانت فكرة “الإله الواحد”وفكرة رب العالمين” والأسماء الحسنى و”خلق الإنس والجن مقولات وإشكاليات تقبل المراجعة والنقد!
يتبين أن فكرة التكفير في ذاتها التي طرحها “الأصوليون” ما هي إلا مسمى ووصف آخر بذات الخصائص لفكرة “الشمولية”السياسية التي تفردت بها المخابرات والأيديولوجيات وحكمت من خلالها، وأوصلت نفسها والوطن إلى كل ما وصل وما حصل، في غياب كل ماكان غائبا ومغيبا! من مظاهر الحياة السياسية الكاملة والقوانين التي تنتج وتنظم ممارستها!
وفي غياب المشروع الوطن للطرفين المتحاربين، ألقى الطرفان القبض على الوطن غنيمة ورهينة تاريخية! كان لابد أن يقع الصدام خارج الوطن، وكان لابد أن يحتكم الطرفان إلى السلاح كل بما لديه! ونزلت الدبابات إلى الشوارع كما تنزل عند كل انقلاب عسكري في سورية منذ الاستقلال! ونزلت البندقية المذهبية”المعارضة” لتواجه الدبابة المخابراتية الحاكمة في صراع لعين وكارثي ! لعين بأطرافه وأسلحته وغاياته ونتائجه!
هذا هو الإرث “الديمقراطي””المضاد للإرهاب” الذي توظفه وتسوقه المخابرات أمريكا وأوربيا اليوم للدلالة على ديمقراطيتها ومعاداتها للإرهاب وبراءتها من دم يوسف!…هذه هي كل الحكاية!!
وفي ظل استمرار، غياب المشروع الوطني وغياب مشروع الإنقاذ! ورغم أن المرحلة كانت مرحلة استحقاقات وطنية كبرى إذ كان الجولان قد احتل وكانت مسائل الصراع العربي الإسرائيلي تزداد سخونة، وكانت مشاريع الإسلام السياسي قد بدأت تتزاحم وتزداد وخاصة بعد ثورة الخميني عام 1979! ورغم كل ذلك ومفاعيل الحادي عشر من أيلول تتفاعل ….وتتشكل في عالمنا! ولن يستطيع من يطرحون الإسلام السياسي حلا أن يواجهوا استحقاقاته، وقد عجزوا عن فهمها! كما لن يستطيع المستبدون والشموليون المخابراتيون أن يقفوا في مهبها أيضا، وقد عجزوا هم أيضا عن إدراك مفاعيلها…وهنا تكمن الكارثة إذ أكاد أسأل: هل قدر لهذا الوطن أن ينسحق بين سندان ومطرقة ثالوث شديد الكراهية:
عولمة أمريكية متصهينة طاغية تقصي كل شيء! ونظام سياسي حاكم مستبد يرى بقفازيه لا بعينيه وإسلام سياسي! لا يكتشف ذاته إلا من خلال سفك الدماء وإقصاء وتكفير الجميع !بل لا يرى في خلق الله لغير المسلمين سوى نافلة وعبثيه ….. هكذا يعتقدها, ويتعامل معها!
الفريقان يقتتلان مرة أخرى، والوطن والمواطنة والعصر والحداثة والديمقراطية والوحدة الوطنية والمصير ينتظرون!!
وبعد هذا الضياع والتيه بين الوطن والإسلام والمخابرات،بين الاستبداد والتكفير، أكتتب على إجازة قصيرة لابد منها لراحة المتعبين الذين لم تترك لهم منها السنين العجاف وأعوام المنفى،سوى البقية الباقية!!!
حبيب صالح
كاتب سوري واحد كوادر ربيع دمشق
ايلاف