بعض المفارقات في الحراك السوري
ابي حسن
يمكن للمراقب أن يرصد أوجهاً عديدة لمفارقات في الحراك السوري الراهن، والحراك هنا لا يقتصر على التجاذبات السياسية للسلطة والمعارضة بما لهما وما عليهما، بل يتعداهما بحيث يكاد يشمل مجمل الفعاليات السورية.
المفارقات على مستوى السلطة لا تحتاج إلى بذل الكثير من الجهد حتى يعرف المُتابع مواضعها ومكامنها، إذ هي تشير إلى ذاتها بذاتها. وقد تكون ظاهرة في أبهى حللها في تناقض خطاب السلطة.
ولئن كان للحكم الكثير من العيوب، فله محامده التي ظهر بعضها بجملة من القرارات التي صدرت عن مقام رئاسة الجمهورية في الأعوام القليلة المنصرمة، وهذا ما انعكس، في بعض أوجهه، في رؤيتنا لعدد من الجامعات الخاصة وكذلك التعليم الموازي (بالرغم مما قد يعتري هذه الخطوة من عثرات وهنّات). أضف إلى ذلك البنوك الخاصة، وحتى الانخفاض الملحوظ في أسعار السيارات (وإن كنا نفتقد إلى بنية تحتية تستوعب هذا الكم الهائل من السيارات) الخ…
في السياق ذاته يمكننا أن نرصد التراخي الملحوظ للقبضة الأمنية على المجتمع السوري، فهي لم تعد تلك القبضة الشرسة التي ما تزال تصورها الدراما السورية، وبعض المقالات الصادرة من هنا أو هناك، بحيث يبدو للمتلقي من خارج سوريا أننا ما نزال نعيش في ظل هيمنة الأجهزة الأمنية على العباد والبلاد كما كان الواقع في ثمانينات القرن الماضي، أو كما هو الواقع الآن في عدد من الدول العربية التي يعاني مواطنوها من المطاوعة!
وإذا ما انتقلنا إلى ضفة المُعارضة، نجد أن المفارقات التي تعتري بعض المعارضات السورية، وكذلك بعض الناشطين من غير المعارضين، لها أوجهها المتعددة والمختلفة، وهي تشير ـ بشكل أو آخر ـ إلى فساد معنوي بالدرجة الأولى، وهذا عادة ما يسبق الفساد المادي الملموس، فضلاً عن أنه من غير المُتاح أن يكون لبعض المعارضة وبعض الناشطين سوى هذا الجانب من الفساد!.
طبعاً تفرض الأمانة، قبل الحديث عن بعض المفارقات الخاصة ببعض المعارضة والناشطين، أن نذكّر بأن المعارضة السورية (الداخلية منها بالدرجة الأولى)، كان لها شرف السبق في كسر حاجز الخوف الذي كاد يكون هُويّة السوريين، وبذلك ساهمت هذه المعارضة بالانتقال بسوريا من مملكة للصمت (بحسب لغة السيد رياض الترك) إلى بلد يكاد يعيش حالة من الحوار الوطني المسؤول في مجمله. وهذه المعارضة التي أعني كانت أول من تحدث عن الفساد مطالبة بالإصلاح متحملّة القهر والسجن منذ عقود في سبيل ذلك، ولها الفضل الكبير ـ من خلال نشطائها وكتاباتهم وبيانات أحزابها ـ في تعريف السوريين بفحوى قانون الطوارئ. وأزعم أن غالبية الشعب السوري، خاصة من هم في سن الشباب، لم تكن تسمع بهذا القانون! حتى أن منظمات وجمعيات حقوق الإنسان التي تشهد سوريا نشوءها منذ بضع سنوات قد خرجت من صُلب معارضين عرضوا حياتهم ـ في كثير من الأحيان ـ للخطر في سبيل ما آمنوا به لأجل سوريا وشعبها.
وقبالة ما يمكن أن نذكره من ايجابيات لهذه المعارضة أو تلك، يمكننا أن نسجل بعض ملامح المفارقات التي تعتري نشاطها، فمثلاً هي تعلن أنها تعيش حالة قطيعة مع النظام، وقد تأسست تلك القطيعة من قبلها في »إعلان دمشق« الصادر منذ قرابة ثلاث سنوات، وبالرغم من ذلك لا يجد الكثير من كوادرها حرجاً من إقامة علاقات تقوم على مصالح ومنافع اقتصادية مع بعض أبناء الحرس القديم، والمعروف أن هذا الأخير هو من أهم أركان الحكم الذي تدّعي المُعارضة مُعارضته!، وبحسب حدود علمي أن تلك العلاقة تتعدى تبادل المصالح والمنافع الاقتصادية، وحتى العلاقات الاجتماعية. يحدثُ هذا في الوقت الذي لم يكن يجد، من نعني من المعارضين، حرجاً من الحديث عن الحرس القديم بالسلب معدداً مثالبه ومخازيه على الجمهور!.
من جانب آخر، لا تفوّت المُعارضة، بمختلف أطيافها، الفرص بغية مطالبة السلطة والحكومة بالشفافية والديموقراطية (لندع الديموقراطية جانباً الآن، خاصة ديموقراطية المُعارضة) في حين تكون هي فيه من خلال مواقفها الملتبسة أبعد ما تكون عن الشفافية! وقد فاقت في هذا الجانب الحكم بخطوات عدة!، فما هو موقف المُعارضات السورية (الداخلية منها بالدرجة الأولى) من التدخل السعودي السافر والمخفي بالداخل السوري؟ وما هو موقفها من مواقف مصر حسني مبارك من خلال منعها بالقوة قوافل فك الحصار عن غزة؟ طبعاً نعرف موقفهم من الحكم السوري في ما قد يماثل الموقف المصري (علماً أنه يكفيه للنظام السوري شرفاً استضافته لقادة حماس في ظل إحجام العديد من الدول العربية الرئيسية عن فعل ذلك، أقول هذا علماً أني أنفر من حماس)، لكن حقنا عليهم أن نعرف رأيهم في سياسة دول عربية أخرى في هذا الخصوص.
وبما أننا ما زلنا في إطار الشفافية، وهي المفردة الأكثر استعمالاً لدى منظمات حقوق الإنسان السورية وجمعياتها، ترى هل سبق أن قرأ أحدنا كشفاً سبق أن قدمته إحدى هذه المنظمات والجمعيات للقرّاء وجمهورها المعني، توضح من خلاله طرق تمويلها، وأين يُصرف ذلك التمويل، وكم هو مقداره؟.
وفي سياق مشابه، تسارع المعارضة ونشطاء حقوق الإنسان لإدانة هذه الجهة من السلطات أو تلك، إثر اعتقالها لأي إسلامي متطرف، لكنها ولا مرة أدانت تطرف هذا الإسلامي أو ذاك إلا من بعد وقوع المحظور منه! وعندما أسوق هذا المثال فلا أبغي من خلاله تبرير اعتقال الإسلاميين كافة، فمن الطبيعي أن يكون الكثير بينهم من حملة الفكر النيّر والمعتدل ومن مالكي الحس الوطني الذي هو عادة ما يدفعهم للمشاركة في هذا النشاط أو ذاك الحراك.
بعض الدراما السورية ـ باعتبارها انخرطت جدياً ومنذ سنوات في الحراك السوري ـ لم تكن في مضامينها بعيدة عن ممارسة النفاق، ومثالها مسلسلات من قبيل »الخوالي« و»أهل الراية«، فكلا المسلسلين عرضا في حلقتيهما الأخيرتين رجال دين مسيحيين في أدوار لا مبرر لها درامياً!
ففي »الخوالي« الذي عُرض منذ بضع سنوات، شاهدنا رجل دين مسيحيا يبارك أحد أفراد »رعيته« قبيل ذهابه إلى مشاركة »الثوار« هجومهم على من يفترض أنهم عثمانيون، في حين شاهدنا رجل لاهوت مسيحيا في وليمة غداء في الحلقة الأخيرة (وسواها من حلقات) من »أهل الراية« كان من ضمن المدعوين إلى منزل أحد وجهاء »الحارة«، طبعاً كدلالة من قبل كاتب العملين على روح الوحدة الوطنية وتناغمها في بلادنا وهو مشكور في هذا، غير أنه يحقُ لنا التساؤل إن كانت الوحدة الوطنية تقتصر فقط على مشاركة بعض المسيحيين للمسلمين (قبضايات الحارة) في وليمة غداء عابرة، أو مباركة رجل لاهوتهم لأحد أفراد رعيته من خلال مشهد مُقحم، أم يُفترض أن تبرز درامياً من خلال المشاركة الجدية في صناعة التاريخ والأحداث والحياة، حتى ولو كان التاريخ مقتصراً على حارة مجاورة جغرافياً كـ»باب توما«؟.
والنفاق الدرامي يتجلّى في أحد جوانبه عند رصد الدراما السورية لأوجه الفساد والاستبداد في سوريا، وهذا واجبها وإن كانت أحياناً تبالغ في وصفها لواقع الحال؛ لكن أن يكون هذا العمل الدرامي أو ذاك إرضاء لمزاج المشاهد الخليجي والمنتج الخليجي فهذا هو الاسترخاص بالإنسان السوري أياً كان موقعه. والنفاق سيظهر عندما يحجُم صنّاع الدراما السورية عن معاينة أو مقاربة أي من مظاهر الفساد والانحطاط التي تعيش في ظلها المجتمعات التي تمول لهم أعمالهم. هل تتخيلون أن نرى عملاً درامياً يعالج فتوى الشيخ محمد الهبدان الذي أفتى مؤخراً بما بات يُسمى »المرأة العورة«١؟، آمل ذلك.
الحديث عن أوجه المفارقات في الحراك السوري لا ينتهي، وقد تكون ظاهرة للعيان الآن كوننا نعيش مرحلة شبه انتقالية. ولعلي أوافق الدكتور عمار قربي عندما قال منذ بضعة أشهر: »إن الفساد يكثر عادة في مراحل التغيير التي تعيشها الدول«؛ وشخصياً أعتقد أننا نعيش في سوريا تغييراً (إرادوياً) بشكل ما، ومن البديهي أن النفاق هو أحد أوجه الفساد الضارب أطنابه في طول سورية وعرضها.. فرفقاً بنا وبعقولنا يا أهل الحراك السوري.
([) كاتب سوري
١»دعا أحد علماء الدين السعوديين، النساء إلى ارتداء النقاب الشامل الذي لا يظهر سوى عين واحدة .
وقال الشيخ محمد الهبدان، إن إظهار المرأة لعينيها الاثنتين قد يشجعها على تزيينهما، مما قد يصير مثارا للغواية.
وكان الشيخ الهبدان، يرد على سؤال في أحد برامج قناة »المجد« الدينية.
ووصف الهبدان النقاب المقترح بالقول إنه من المستحسن للنساء ارتداء نقاب به شبكة في منطقة العينين، وعلى تلك الشبكة قطعة من قماش تغطي إحدى العينين، تسدلها المرأة أثناء السير، وترفعها عندما تريد التأكد من سلعة أثناء التسوق«. المصدر
BBC 6/10/2008