رأفـــة بنـــا !
حسين العودات
حكمت محكمة الجنايات بدمشق بالسجن سنتين ونصف السنة وبالتجريد من الحقوق المدنية على اثني عشر ناشطاً من نشطاء إعلان دمشق بينهم الدكتورة فداء الحوراني، بتهم ململمة من هنا وهناك على رأسها إضعاف الشعور القومي والتسبب في وهن نفسية الأمة. وهي تهم بجرائم لا يعترف بها الدستور السوري ولا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدّقته سوريا والتزمت به، ذلك أن الاعتقال والاتهام والمحاكمة جرت حسب قانوني الطوارئ والأحكام العرفية اللذين أقرا قبل الاستفتاء على الدستور الحالي بأكثر من عشر سنوات، ومن المفروض دستورياً أن يجبّ الدستور ما قبله ويُعتبر هذان القانونان وكأنهما غير موجودين.
إضافة إلى الجانب الدستوري والقانوني من المحاكمة هناك ظروف قائمة وتطور حصل في العالم ومفاهيم جديدة تبنتها مجتمعات الأرض المعاصرة ودولها تقضي جميعها بابتعاد الحكومات والسلطات السياسية عن مثل هذه المحاكمات، لأنها إجراء بالٍ واستثنائي كان يمارس في عهود سابقة وظروف عالمية سابقة، وأصبح نشازاً أو نتاجاً لرؤية قاصرة لتقاليد عالمنا الحاضر، فنادراً ما نجد الآن حكومة أو سلطة تحاكم مواطنيها على آرائهم وتزج بهم في السجون عقاباً على هذه الآراء، خاصة أن التهم جميعها تتعلق بإبداء رأي من مواطنين لم يشكك أحد من السلطة بوطنيتهم، ولم يشارك أي منهم في تنظيم سري أو يخرج بتظاهرة أو يحمل السلاح بوجه السلطة فقد كان اجتماعهم الذي حوكموا بموجبه علنياً وبغير تنظيم حزبي، وكانت السلطات الأمنية تعرف به قبل حدوثه ولم تمنعه وانتظرت حتى انتهائه ثم بدأت حملتها بتواطؤ لا يحتاج إلى كبير إثبات. من جهة أخرى لا يستحق تاريخ سوريا ونضال شعبها ومواقفه الطامحة للتحرر والحرية والديموقراطية والتقدم والتنمية والوحدة العربية أن تلطخ سمعتها أمام شعوب العالم وتظهر سلطتها السياسية بأنها تضيق بالرأي الآخر وتحاكم من ينتمون إليه وتجرمهم وما من مجتمع في دنيانا يعيش أفراده برأي واحد وقول واحد ويتقولون بنمط واحد من التفكير والرأي والممارسة، وفي ظروف تحتاج فيها سوريا ونظامها السياسي وشعبها إلى الوحدة الوطنية وتماسك مجتمعها ولحمة نسيجها الاجتماعي من خلال الحوار وتداول الرأي بحرية ومسؤولية، خاصة أن البلاد تواجه أكثر من عدو وضغوطاً أميركية وتحفزاً إسرائيلياً للعدوان وعقوبات ومحاولات عزل وصعوبات داخلية اقتصادية واجتماعية، وهي لهذا بحاجة حقيقية للوحدة الوطنية واللحمة المجتمعية وتعميق شعور انتماء المواطن لوطنه من خلال ممارسة الحرية والديموقراطية وتطبيق تكافؤ الفرص لا بتخويفه من السلطة أو أجهزة الأمن وإشعاره أنه واحد من الرعايا لا من المواطنين الأحرار.
وفي الإجراءات يلاحظ ارتكاب أخطاء أمنية تدلّ على عدم الاهتمام بسمعة البلاد أو أخذ القانون والتقاليد بعين الاعتبار، فقد جرى اعتقال هؤلاء النشطاء بعد يومين من احتفال العالم باليوم العالمي لحقوق الإنسان في العام الماضي، دون الانتباه إلى سلبية موعد الاعتقال الذي كان يمكن تأخيره بعض الوقت، كما جرت عملية انتقائية في اختيار النشطاء المعتقلين دون معيار موحد، مما يدل على المزاجية في هذا الاعتقال، كما لوحظ أن المحكمة طلبت من المحامين مرافعات مكتوبة دون السماح بعرضها كما لم تعتمد على أدلة أو وثائق أو أحداث تثبت التهم واكتفت بتهم قررتها أجهزة الأمن. وفي الإجراءات أيضاً وزع المتهمون في السجن على مهاجع تضم متهمين أو مجرمين جنائيين (قتلة ومتعاملين بتجارة المخدرات أو متعاطين لها وغير ذلك)، وكان الأولى أن يودعوا مهاجع خاصة بهم تضم متهمين سياسيين، فضلاً عن أن التعامل معهم في السجن هو أقسى من التعامل مع المجرمين العاديين.
إن الخشية كل الخشية أن يكون أمر التعامل مع النشطاء السياسيين والمعارضة السورية أوكل لأجهزة الأمن. ولذلك لم يتم التعامل معهم كأفراد معارضة لها رأي آخر، ومن طبيعة الأمور أن الأجهزة تتعامل مع النشطاء السياسيين كعملاء وخونة يشكلون خطراً على الأمن الوطني وأمن النظام، يستدعونهم للتحقيق ويمنعونهم من السفر ويعتقلونهم، وكان من المفروض أن يتم تحديد الموقف منهم على أنهم فريق سياسي معارض، خاصة أنهم يرفضون العنف وينادون بالحرية والديموقراطية بل والتعاون مع النظام لتحقيق التطوير والتحديث ودفع التنمية خطوات إلى الأمام، وهذا آخر ما يخطر على بال الأجهزة التي نسي بعضها مهماته الأصلية وركز جهوده على ملاحقة المعارضة واتهامها واعتبارها العدو الرئيسي للبلاد والنظام في الوقت الذي تناست فيه الفاسدين والمفسدين الذين نشروا الفساد في سوريا وعمّقوه واستولوا على المال العام وعلى مال المواطنين وأضاعوا حقوقهم، ولم يهتموا حتى للتقارير الدولية التي جاء فيها أن انتشار الفساد في سوريا هو الأكثر في البلدان العربية، وليس من بلد عربي أكثر فساداً منها سوى العراق، أو التقارير الأخرى التي وضعتها بالدرجة (١٥٧) من أصل (١٧٣) دولة لا تحترم الحريات الصحافية، ولا شك في أنه لا المجتمع السوري ولا الشعب السوري ولا حتى النظام السياسي في سوريا يستحقون مثل هذه المواقع، وبديهي أن التعامل الأمني مع المعارضة لا يرى إلا من (خرم الإبرة) وبقصر نظر مشهود ولا يستوعب الظروف الأخرى المحيطة بالبلاد، الإقليمية منها والدولية، السياسية والاقتصادية، بل لا يهتم بأن سياسة الخوف التي يؤسسها ويعمقها تدمر روح المواطنة والشخصية الإنسانية وثقافة الفرد وعلاقته بوطنه ومجتمعه وحتى أسرته.
أظن أن بعض الأجهزة لا يعرف شعور المذلة والمهانة الذي يحس به الناشط السياسي عندما يستدعيه عنصر منها لا يعرف شيئاً عن أي شيء ويتعامل معه على أنه خائن وعميل، أو عندما يتصرف معه المحقق بصلف وعجرفة وكأنه مشبوه، أو عندما يملي استمارة محشوة بأسئلة معظمها ساذجة، لا تفيد أحداً وتستدعي الأسف. والأنكى من ذلك إنكار مواطنته أو وطنيته والشك في كل خطوة يخطوها. وأظنها لا تشعر بمرارة الأهل والأقرباء والأصدقاء عندما يستدعى الناشط لمراجعة هذه الأجهزة ومخاوفهم من اعتقاله، وما أقسى أن يشعر المواطن بأنه مهدّد بالاعتقال أو الطرد من العمل أو المنع من السفر أو بأنه مراقب أينما ذهب وأن التنصت يلاحق هاتفه والرقابة تسلط الضوء على بريده العادي والإلكتروني وغيره وغيره، فكيف يكون المواطن سوياً في هذا المناخ.
أذكر حزب البعث ومناضليه في مطلع خمسينيات القرن الماضي عندما تصدوا لأهداف ينوء بحملها أكبر الأحزاب وأثّر مناضلوه في تاريخ سوريا والبلدان العربية، ولم يكونوا يملكون سوى إيمانهم فلا أجهزة أمن ولا أجهزة قمع، وأراه اليوم بعد ستين عاماً من تأسيسه وخمسة وأربعين عاماً من توليه الحكم، كيف تحول نظامه السياسي إلى سلطة بحتة تشكل أجهزة الأمن أقوى مكوناتها وتعمل مفترضة أن بين مبادئه وبين الشعب فجوة عميقة، وترى في الشعب معادياً لمبادئ الحزب التي كان قد آمن بها عندما كان الحزب ناهضاً بدون سلطة وبدون أجهزة، وتستولي الأجهزة وبيروقراطية الدولة الآن على نظامه السياسي، ويشاركهم الانتهازيون والمدلسون والأغنياء الجدد ومن هم أسوأ من هذه الشرائح، كما أذكر أيام الأمس القريب جداً عندما ألقى الرئيس بشار الأسد خطابه في اليوم الأول لولايته الأولى (خطاب القسم) وكان خطاباً نقدياً جاداً ومسؤولاً ويدعو للتفاؤل وقد تفاءل فيه الشعب السوري خيراً، وأرى اليوم كيف تعمل جموع هؤلاء ليتآكل مضمون الخطاب وتحاول في الوقت نفسه أن تلقي المسؤولية على حزب البعث وعلى الرئيس وتغسل أيديها من الأخطاء، وما أحلى أن يعمل المرء بدون مسؤولية!
إن كان الأمر كذلك، فلنا أن نتصور اليوم حال من أمضوا حياتهم يعملون لأهداف يرونها الآن تمسخ من قبل البعض وهم لا يلوون على شيء، بل هم متهمون بالعمل ضدها، و(خوفي عليك وخوفي منك يا رجل).
([) كاتب سوري
السفير