بقعة سمراء
ساطع نور الدين
تحول تاريخي لا شك فيه، لكنه ليس انقلاباً. أميركا لم تغير لونها، كانت بيضاء وستبقى، لكن مع مسحة سمراء خفيفة على جبينها، ومع ترنيمة سوداء في شوارعها. وكل ما بينهما سيبقى في مكانه، من دون أي تعديل جوهري في جدول أعمالها… الذي وضعه البيض وانضم اليه السود وبقية الأقليات العرقية.
قفزة ثقافية هائلة لأميركا المتعددة، التي أكدت بالأمس أنها حاسمة في السعي الى ترسيخ المصالحة التاريخية مع ماضيها الأسود، التي سبق أن حققتها منذ سنوات عديدة عندما فكت قيود العبودية ثم شفيت من عوارض العنصرية تجاه أقليتها السوداء، التي انتقلت من الأرياف الى ضواحي المدن، ثم الى قلب الحياة الأميركية لتصنع أهم ما أنتجته الولايات المتحدة من غناء وموسيقى وأدب وشعر ورسم، ولتقدم شريحة من كبار الأغنياء الذين انضموا على الفور الى نوادي النخبة، على اختلاف مجالاتها الاقتصادية والإعلامية والرياضية.
لكن هذه الأقلية، التي زحفت بالأمس على مراكز الاقتراع كما لم تفعل في أي يوم من تاريخها، كانت تسير وراء الرمز الذي تمثله بشرة أوباما الخارجية، لتطوي صفحات الماضي البعيد، وتؤكد أنها مكون أساسي من تلك البلاد، وشريك رئيسي في صنع مستقبلها، وليس مجرد عقدة اجتماعية ورثتها أجيال من الأميركيين… من دون ان تحمل معها برنامجاً سياسياً اسود الملامح الى البيت الأبيض، بل جدول أعمال يعنى بجميع فقراء أميركا على اختلاف ألوانهم المتعددة.
لكنها تبقى نقلة نوعية بالنسبة الى السود بالتحديد، الذين باتوا من الآن فصاعداً جزءاً من النظام الذي استعبدهم لقرنين، وجزءاً من المؤسسة التي أقصتهم بل احتقرتهم لعقود طويلة، ولم تحترم حلمهم الأبرز الذي أطلقه زعيمهم الراحل مارتن لوثر كينغ… والذي تجاهل ذكره الرئيس المنتخب أوباما في خطاب النصر أمام ربع مليون شخص تجمعوا في حديقة شيكاغو، في توكيد لا يقبل الشك على صحة الاتهام الرئيسي الموجه إليه بأنه ليس »اسود بما يكفي…«.
مع ذلك فإن إعلان انخراط السود للمرة الأولى في الحياة السياسية الأميركية، بواسطة اوباما لن يكون حدثاً عابراً، ولا لحظة تغيير اختارتها الغالبية البيضاء للانتقام من النظام ومن المؤسسة التي قادت البلاد خلال السنوات الثماني الماضية نحو حافة الخراب بالمعنى الحرفي للكلمة. صحيح أن الرئيس المنتخب لم يأت من حزب اسود ولا من بيئة سوداء ولم يصطحب معه فريقاً اسود، وليس بين مستشاريه الرئيسيين المرشحين لتولي المناصب الأعلى في الإدارة من يحمل بشرة سمراء حتى… لكن فوزه يفسح المجال أمام أجيال من السياسيين السود الذين وقفوا طويلاً على أعتاب الأحزاب والمؤسسات السياسية، برغم أنهم مساهمون أساسيون في علوم السياسة الأميركية وفي فنونها.
بهذا المعنى فقط يمكن اعتبار فوز اوباما منعطفاً حاسماً في الداخل الأميركي، ستكون له بلا شك آثار بعيدة المدى على مجمل السياسة الخارجية الأميركية… اما في السنوات الأربع المقبلة، فإن البيت الأبيض سيحافظ على لونه، وعلى تلك البقعة السمراء في مكتبه البيضاوي.
السفير