بداية العزلة
أهم ما في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت أمس أنها منعطف حاسم في تاريخ أميركا يعلن عن عودتها إلى داخل حدودها، بعد قرن من الغزوات والفتوحات، التي جعلت منها دولة عظمى وحيدة، لا تغيب الشمس عن قواعدها العسكرية، وكرستها إمبراطورية مزعومة للخير تقاتل الأشرار في مختلف أنحاء العالم وتقتلهم وتغنم مشاربهم ومضاربهم… عدا الإسلاميين الذين لا تزال تجد صعوبة في قتالهم وفي هزيمتهم.
صوّت الناخبون الأميركيون، على اختلاف انتماءاتهم وميولهم، لبرنامج وحيد هو الذي يضمن إدارة ناجحة لبلادهم في مرحلة انكفائها التاريخي، وفي مواجهة تحدي إعادة بناء الدولة ومؤسساتها من نقطة الصفر تقريباً. كان الخلاف الوحيد بينهم هو ما اذا كان المرشح الجمهوري جون ماكين اكفأ من باراك أوباما للقيام بمثل هذه المهمة العاجلة. وكان هذا هو عنوان النقاش الجوهري الذي دار بين كبار مفكريهم وكتابهم على مدى الأشهر الماضية من الحملة الانتخابية… وتوج مؤخراً في السجال المثير بين فرنسيس فوكوياما وبين فريد زكريا.
الأزمة المالية الأخيرة، كانت قمة جبل الجليد الذي كشف ذوبانه عن مظاهر خلل عميقة في بنية الاقتصاد الأميركي، وعن انهيار سريع في تركيبة مؤسساته وشركاته الكبرى والصغرى التي تقف اليوم على شفير الإفلاس، بعدما خسرت المنافسة الحادة مع اقتصاديات ناشئة استطاعت أن تصمد حتى في وجه هذا الإعصار القوي. والكلام الذي يقوله الأميركيون انفسهم في تلك الأزمة ونتائجها مذهل لأنه يعطي الانطباع بأن أميركا دولة تفتقر حتى الى البنى التحتية، وتحتاج الى اعادة تخطيط شاملة لدورتها الاقتصادية وسبل حصولها على المواد الأولية ومصادر الطاقة، وليس فقط على الأموال والاستثمارات الأجنبية التي لم تعد ايضا تعتبر ان السوق الاميركية هي الجنة الموعودة.
باختصار لم يبق من أميركا شيء سوى قوتها العسكرية الهائلة، التي لا تزال تستطيع ان تستخدمها لمحو الحضارة الإنسانية من الوجود، بل ويمكن ان تستخدمها لمحو بعض الثقافات او البيئات المتمردة، والمخالفة لقوانين الطبيعة التي تؤكد ان تلك الإمبراطورية هي في حالة انحطاط، وهي لم تعد تملك مؤهلات القيادة العالمية، ولم تعد تمثل ذلك النموذج الخلاق الذي كان حتى الأمس القريب حلماً يراود شعوب العالم قاطبة.
صوّت الأميركيون من اجل هذا البرنامج الذي يعلن أن أميركا دخلت في مرحلة من العزلة قد تدوم مئة عام، كما انها قد تستمر الى الأبد، لأن احداً من منافسيها لن ينتظر عودتها الى الزعامة… ولأن الإسلاميين الذين قاتلوها على مدى العقدين الماضيين، لم يرفعوا الراية البيضاء بعد، وما زالوا ينزلون اللعنة تلو الأخرى على اميركا التي شاء القدر ان تكون حملتها العسكرية الأخيرة ضدهم، من دون ان تدري ان هؤلاء الأشباح هم الذين خططوا لجرها الى تلك الحرب، ولم ييأسوا من إعلان النصر النهائي، كما سبق أن فعلوا قبل أقل من عقدين من الزمن.