أوباما والتغييرعلى الطريقة الأمريكية
بدر الدين شنن
بعد معركة انتخابية تاريخية بامتياز .. ا ستطاع الشعب الأمريكي ، وخاصة عشرات الملايين من أبنائه البسطاء المهمشين ، أن يرتقي بالديمقراطية ، من التعبير النسبي الشكلي عن الرأي وعن إرادته في امتلاك خياراته ، من الاستخدام المنافق لشرعنة لعبة سادة الطبقة الرأسمالية الاحتكارية في تداول السلطة وتركيز الثروة في أيدي قلة لاتتجاوز 1% في المجتمع ، إلى التعبير ، وهذا نادراً ما يحدث في التاريخ الأمريكي ، عن الإرادة الشعبية في التغيير واختيار البدائل لواقعه الراهن المرهق المدمر على الصعد كافة .
تاريخية هذه المعركة الانتخابية تكمن ، في أنها أ سقطت عهد المحافظين الجدد الجمهوريين ، وأ سقطت ” البوشية ” المعبرة عن أكثر السياسات الإمبراطورية الأمريكية مهزلة ودموية وعنصرية على مستوى الخارج ، وأكثر السياسات نصباً واحتيالاً ونفاقاً في المسائل الاقتصادية والمالية والاجتماعية وحقوق الإنسان على مستوى الداخل . وهذا ما يفسر تسمر الناس في العالم ، أمام شاشات التلفزيون طيلة يوم 4 وليلة 5 تشرين ثاني الحالي ، يغمرهم القلق من احتمال فشل أوباما ، ويشدهم التوق العارم لمشاهدة فشل مرشح الحزب الجمهوري ماكين وسقوط العهد البوشي . كما يفسر الارتياح في مختلف البلدان لنتيجة هذه المعركة الانتخابية ، التي ’حسمت بفوز أوباما ، على أمل أن يتمكن الرجل من وضع حد للحروب والأزمات ، التي ارتكب بوش جريمة شنها وتسبب بها ، لحساب الشركات الاحتكارية العابرة للقارات ، وخاصة في قطاعات صناعة الأسلحة والطاقة والأغذية ، والتي انعكست على العالم كله ، بمافيه المجتمع الأمريكي .. توتراً ودماراً وخوفاً من الغد .
وتاريخية هذه المعركة الانتخابية تكمن أيضاً ، في أنها جسدت قطعاً حقوقاً وثقافياً مع الماضي العنصري في التاريخ الأمريكي . وبرهنت على أعلى مستوى من الممارسة انتزاع المساواة القانونية والسياسية في الحقوق لكافة المواطنين . وبهذا المعنى اختفت أقواس الميز العنصري ، التي كانت تحاصر المواطنين من أصول إفريقية ولاتينية ( من أمريكا اللاتينية ) ، الذين يتجاوز عددهم المائة مليون مواطن ، والذين يشملهم جميعاً توصيف المهمشين المحرومين من كثير من الحقوق في المجتمع . وبهذين البعدين ، بالدرجة الأولى ، شكلت الحملة الانتخابية لأوباما لحظة تاريخية ، وشدت إليها الأضواء والأنظار والعواطف .
إن ” ظاهرة أوباما ” ، إن جاز التعبير ، لاتقف عند هذين البعدين وحسب ، وإنما تتعداهما إلى أبعاد أخرى ، في مقدمها ، التعاطي مع الإرث ” البوشي ” الثقيل السياسي والمالي والاقتصادي والحربي ، الذي له امتداداته وانعكاساته الداخلية والخارجية ، وإلى ا ستحقاقات الوعود التي قطعها أوباما للشعب الأمريكي في المسائل الاجتماعية ، وأهمها ، زيادة تعويضات البطالة ، وتعميم الضمان الصحي ، وتخفيف وطأة الملاحقات الأمنية وتسوية إجراءات الإقامة والجنسية للمهاجرين اللاتينيين .
بيد أن هذه الظاهرة ، التي شكلتها خلفيات وارتباطات ومصالح متعددة ، سوف تتجلى على حقيقتها كاملة ، بعد إطفاء أضواء المهرجانات والاحتفالات وخضوعها لإضاءات تستهدف حقيقتها ومصداقيتها وشفافيتها . إذ أنها بعد أسابيع من الآن .. بعد إجراءات التسليم والاستلام لمقام الرئاسة في البيت الأبيض ، سيوضع كل ماورد في الوعود تحت عنوان ” التغيير ” التي قدمها أوباما للشعب الأمريكي قيد التطبيق .
وعندئذ ستظهر ( بضم التاء ) الخطوات الملموسة لهذا ” التغيير إن كان ماحدث يجسد مساراً ، حقيقياً ، من أجل التغيير ، وذلك بانتهاج سياسات مغايرة لسياسات المحافظين الجدد الجمهوريين ، أم أنه إجراء ” ديمقراطي ” لتوسيع عنق الزجاجة ، حتى تمر الأزمة المالية والسياسية والعسكرية الخانقة للنظام الرأ سمالي الأمريكي والعالمي ، بعد أن عجز المحافظون الجدد عن متابعة نهجهم الفاشل وعن إيجاد مخرج مقبول داخلياً وعالمياً .. ستظهر إن كان الرجل أوباما ، الناطق بالتغيير ، هو مشروع أ سطورة أفرزتها تقاطعات تاريخية عديدة ، سوف تكتمل شروطها من خلال ممارسة ” التغيير ” الجدي على الأرض .. أم أنه كان صناعة حرفية كارزمية ، تمت فبركتها وتوظيفها ، للقيام بدور مطابق لمواصفاته وطموحاته في اللحظة المأزومة في لعبة تداول السلطة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي المحتكرين لصناعة السياسة الأمريكية .. لجذب أكثر مايمكن من عديد المستنكفين عادة عن التصويت ، لعدم ثقتهم بمرشحي محتكري السلطة ، لإعادة إنتاج السلطة برداء جديد لحساب المنظومة الحاكمة ، عبر مؤسسات ” ديمقراطية ” هي تاريخياً عصية على الاختراق مالياً وسياسياً بالنسبة للمواطنين العاديين .
هذا التحفظ ليس مرده التشاؤم ، وإنما الموضوعية التي تجنب إجراء إ سقاطات للحدث هي في غير محلها على واقع مأزوم هنا أو هناك ، والحرص من الاّ يغمر ، بعد لأي ، الإحباط للذين تابعوا بتوق صادق لحظة سقوط عهد المحافظين الجدد الجمهوريين أكثر من الرغبة بفوز أوباما بذاته .
إن خلفية هذا التحفظ تأتي من قراءة المعادلة الديمقراطية الأمريكية .. وكشف مجاهيلها ومفاعيلها وعلاقاتها مع مكونات النظام الرأسمالي الاحتكاري . ففي إضاءة بسيطة ، نجد أن من يملك مادياً وإدارياً آليات تجسيد الديمقراطية الأساسية ، سياسياً ( أحزاب . جمعيات . اتحادات . نواد . .. ) وإعلامياً ( صحف مجلات دوريات . تلفزيون . إذاعات . وكالات أنباء … ) وثقافياً ( مؤسسات تعليمية . دور نشر . مراكز أبحاث تخصصية … ) التي تكلف مئات المليارات من الدولارات ، في بلد قاري المساحة عديد السكان وبالغ الثراء ، حيث يمتد من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي على مساحة تبلغ نحو 10 مليون كيلو متر مربع ، ويضم نحو 300 مليون نسمة ، وناتجه الاجمالي أكثر من ربع الناتج الاجمالي العالمي ، هو من يملك التحكم بالحراك الديمقراطي السياسي والإعلامي والثقافي . وهذا التملك على هذا القدر من الاتساع يفرض مستوى من التكلفة الباهظة ، إلى درجة يستحيل معها على أية أحزاب أو مجموعات رفض جذري شعبية للنظام ، أن تقوم بحراك واسع خارج محيط نفوذ الاحتكارات ، وأن تحقق فوزاً هاماً على مستوى ولاية ، أو أي فوز على مستوى فيدرالي . ونجد بالتالي ، أن القوى المالكة للآليات الديمقراطية الأساسية ، تملك قرار ” التغيير ” المعبرعن مصالها ، عبر صراعاتها ” الديمقراطية ” لإعادة إنتاج السلطة في إطار النظام ذاته .
وبذا ليس من الرجاحة ، تغييب دور القوى المالكة للشركات الاحتكارية الكبرى والقسم الأعظم من الثروة والآليات الديمقراطية عن ظاهرة وبرنامج أوباما ، الذي لمع كالبرق .. مفاجئاً .. في سماء غيوم الأزمة الرأ سمالية التي فجرتها حروب المحافظين الجدد الجمهوريين الإمبراطورية ، وعبث الرأ سمال المالي المقامر بالقيم النقدية الورقية في التداول الداخلي والدولي ، والتحكم الاحتكاري المتوحش بأسعار البترول والمواد الغذائية الأساسية . سيما ، وأنه من المعروف أن الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة تكلف مليارات الدولارات .
كما أنه ليس من الرجاحة ، تناسي أن أوباما هو مرشح الحزب الديمقراطي ، أي أنه جاء من أحد الحزبين اللذين يتداولان السلطة تاريخياً ، أي من مؤسسات النظام الاحتكاري ، ما أتاح له دعم الديمقراطيين الذين لهم نفوذ كبير في القطاع المالي في الطبقة الاقتصادية الحاكمة . وعلى هذا ، فإن أوباما ملتزم بخدمة الشركات والمصارف الأمريكية . بدلالة أنه وافق على خطة بوش تأميم خسائر كبريات الشركات المالية والمصرفية التي تقدم بها بوش دون تعديل . وأنه ا شترط انسحاب الجيش الأمريكي من العراق ببقاء خمسين ألف جندي أمريكي في قواعد عسكرية مابين النهرين باسم متابعة الحرب على لإرهاب ، وخصخصة البترول العراقي وتسليمه إلى شركات عالمية ، وأنه إلتزم بحماية إ سرائيل وأمن إ سرائيل ، وأنه ضد تقسيم القدس وضد التفاوض مع حماس ، وهو لايختلف حول ماتقدم عن الليكود والمحافظين الجدد الجمهوريين . وحسب الإعلام ، فإنه سيعين الوزير الإسرائيلي السابق راحم عمانوئيل رئيساً للموظفين في البيت الأبيض .
ولذا فإن وعد أوباما بالتغيير ، الذي مثل في بدايات المعركة الانتخابية حلماً قابلاً بشكل أو بآخر للتطبيق . إلاّ أنه في أواخر هذه المعركة ، ومابعد جلوسه على كرسي المسؤولية والتعاطي مع مؤسسات النظام ، التي جاء من خلالها لمتابعة أداء الرئاسة في خدمتها ، صار الوعد إجمالاً سراباً . فالرئيس أوباما قد يتحرك فوق عدد من المربعات في مساحة اللعبة السياسية الأمريكية خلافاً لاتجاهات بوش ” الغبي ” في اللعبة ، إلاّ أنه باق على نفس النسق لقواعد اللعبة التي تخدم الطبقة السائدة في الدولة والمجتمع .
في كل الأحوال ، إن نجاح أوباما بالإطاحة بالمحافظين الجدد الجمهوريين وبنهجهم المفرط في التطرف السياسي – الحربي التدميري ، وتمايزه النسبي ” الموعود ” عن بوش في أداء الإدارة الأمريكية فيما يتعلق بالمجتمع الأمريكي وفي علاقات أمريكا الدولية هو ، أمر جدير أن يسجل أنه خطوة متقدمة ، مقارنة بعهد بوش ، وجديرة بالمتابعة بمزيد من الضوء والشفافية .
بيد أن الشعب الأمريكي الذي يتضمن نسبة عالية من القوى العاملة المتمركزة في شركات عملاقة ، ويضم مائة مليون من المهمشين ، يستحق في مواجهة دورات الأزمة الرأ سمالية المتوالية ، برنامج تغيير أوسع وأكثر جذرية من برنامج التغيير الذي يحمله أوباما .. يستحق أوبامًا ريادياً وتنظمياً آخر .. يعرف كيف يحرر الشعب الأمريكي من القيود الاحتكارية للمال والانتاج والسلطة . إذ أن “” تغيير ” أوباما الموعود ، إن سمحت له الظروف أن يرى النور ، فهو لن يتعدى القشرة الرقيقة لبنية النظام . في حين أن ا ستحقاقات التغيير المطلوبة تستدعي ما هو أهم وأكثر جذرية مما يتنبناه أوباما .
مامعناه ، أن ظاهرة أوباما بذاتها .. التي تعبر عن عصامية وطموحات وإرادة نادرة ، تبقى محاصرة بحدود الاستثناء العابر ، وهي لن تستطيع إحداث التغيير في بنية النظام الأمريكي بأسسه ونهجه وسطوة الاحتكارات العابرة للقارات المتجاوزة للمطامح التقليدية المتواضعة .
وربما .. لو لم تلعب أزمة الرأ سمال المالي الأخيرة دوراً كبيراً في دفع عشرات ملايين المهمشين للمشاركة بالتصويت ، لكان جون ماكين الآن هو الذي يجهز حقائبه للإنتقال كرئيس جديد لأمريكا إلى البيت الأبيض ..
الحوار المتمدن