الآن يبدأ القرن الحادي والعشرون!
محمد الحداد
تقدم الانتخابات الأميركية تأكيدا جديدا على أن الديموقراطية هي النظام السياسي الأقل سوءا وأنها نظام لئن كان لا يبلغ الكمال الذي لا يمكن على كل حال أن يبلغه أي نظام فإنه يتفوق على كل الأنظمة السياسية التي عرفتها الإنسانية إلى حد الآن. لقد كان عهد بوش الابن كبوة ديموقراطية، بمعنى أن شخصا قد انتخب بطريقة ديموقراطية قد غالط شعبه والعالم حوله في قضايا عديدة وسلك سياسة كان لها وقع سيئ على ملايين البشر.
وليس اللوم على بوش الابن أنه خلص العراق من ديكتاتور، ولكنه ألقاه في وضع فوضوي لن ينهض منه قبل سنوات طويلة وأدار ظهره للناصحين العارفين بتعقد الأوضاع في المنطقة واختار تدخلا أميركيا على تدخل دولي تحت راية الأمم المتحدة، فضلا عن كذبة الأسلحة النووية الوهمية التي ستبقي من أكبر الكذبات السياسية في التاريخ.
وليس اللوم عليه أنه سلك سياسة ليبرالية قوية، فهذا كان اتجاه العالم كله بعد سقوط الشيوعية، ولكنه حول الليبرالية الاقتصادية إلى سلاح سياسي لخدمة المصالح الضيقة للكارتيلات والمضاربين وتنكّر للمبدأ الأول لليبرالية الذي يقتضي أن يكون الاقتصاد مفتوحا ومتنوعا.
وليس اللوم عليه أنه طارد المتهمين في تفجيرات 2001، فالقوة الأكبر في العالم لا يمكن أن تترك المعتدين عليها دون عقاب، لكنه حول العقاب إلى انتقام ووسع جبهة الأعداء بتوسيع جبهة المواجهة إلى ما يتجاوز المسؤولين الحقيقيين عن تلك العمليات الآثمة. كانت النتيجة نهاية ولاية الرئيس الثالث والأربعين للولايات المتحدة نهاية ذليلة وسط أزمة اقتصادية عالمية غير مسبوقة ووضع فوضوي في الشرق الأوسط ووعود كثيرة لم يتحقق إلا نقضيها مثل محاكمة مدبري تفجيرات 2001 وإقامة الدولة الفلسطينية قبل نهاية السنة وتطوير الديموقراطية في العالم وتحقيق الرخاء للمواطن الأميركي.
لكن بوش الابن ليس أميركا، والرئيس ليس المؤسسة، وذلك ما لم يفهمه الذين أرادوا منذ سنوات أن يوظفوا السياسات الخاطئة للإدارة الأميركية المتخلية لضرب فكرة الديموقراطية نفسها، لقد تدعمت التعادلية لدى الكثير من المثقفين عندنا، وأصبح سائدا أن نسمع ونقرأ عن التقابل بين «التطرف» الأميركي والتطرف الإرهابي، وبين بوش وصدام حسين أو ابن لادن، ولم يكن المقصد من ذلك إلا «رمي الرضيع مع الماء» كما يقول المثل الفرنسي، وربما كانت قلة تعودنا على التمييز بين الأشخاص والمؤسسات سبب هذا الخلط، فبدت بعض قرارات الإدارة المتخلية سياسة ستتواصل إلى الأبد ومؤشرا لصراع حضاري يتجاوز الطواقم السياسية. لكننا نعي اليوم بالفارق الكبير: الديكتاتوريات لا تتغير إلا بالعنف، أما أكثر الحكام تطرفا في الديموقراطيات فإنه يتغير بورقة صغيرة يضعها آلاف الأشخاص الأحرار في صندوق الانتخاب. سأل صحافي امرأة سوداء فقيرة كيف ترضى بأن تتحمل ثلاث ساعات من الانتظار للتصويت، فأجابته: لأني عندما يحين دوري سأساهم في كتابة التاريخ. هذه اللقطة الصغيرة التي شاهدتها في إحدى التحقيقات التلفزيونية هي أكثر بلاغة من كل كتب الفكر السياسي التي قرأت حتى الآن.
أجل، الديموقراطية هي التي سمحت لرجل أسود يحمل اسما من أصل عربي وولد من أب مسلم وعاش صباه خارج أميركا وتربى في أسرة فقيرة وتزوج من امرأة أكثر منه سوادا وفقرا أن يصبح رئيسا لأكبر قوة في العالم، سيكون عسيرا بعد اليوم أن يواصل بعض كتابنا ومثقفينا خطاب التعادلية والمقارنة بين بوش وابن لادن أو صدام حسين، وهذه بعض مكاسبنا من الانتخابات الأميركية، أما السياسة الخارجية للسيد أوباما فلن تكون بالتأكيد في مستوى الآمال الضخمة التي علقها عليه العالم، إذ سيكون رئيس بلاده والممثل لمصالحها قبل كل شيء، لكن المهم هو الروح الجديدة المتخلصة من الغطرسة التي ستعتمد مستقبلا، والمهم أيضا أن الناخب الأميركي لم يخالف شعوب العالم تطلعها إلى التغيير ومللها من الخيارات المحافظة في السياسات الداخلية والخارجية والاقتصاد.
الديموقراطية تخطئ لكنها الأكثر قدرة على النهوض من كبواتها، لهذا السبب كانت النظام السياسي الأقل سوءا والتعبير الأفضل عن حلم المجتمع المفتوح الذي يضع القيمة البشرية فوق كل القيم ويجعل الإنسان في مركز الصدارة والاهتمام. وثمة شيء آخر جدير بدوره بالتنويه، هو أن التوظيف السياسي المفرط للدين كما رأيناه في عهد الرئيس المتخلي لم يكن إلا ظاهرة عرضية في الحياة السياسية الأميركية، ولقد خسر ماكين رغم دعم اليمين المسيحي له، بل يرى بعض المراقبين أن هذا الدعم كان أحد أسباب خسارته. إن اليمين المسيحي المتطرف لم يكن إلا مركزا من مراكز القوة (لوبي) تقلص دوره عندما تفطن الناخب العادي لأضراره. فلا معنى أيضا أن يغازل البعض التطرف الديني عندنا بدعوى أن التطرف موجود أيضا لدى الآخرين، فهو أكثر عمقا وخطرا في مجتمعات مازالت تتلمس طريقها إلى الحداثة والديموقراطية وليس لها العمق التاريخي لأمم بدأت هذا الطريق قبل أكثر من قرنين.
الحياة