صفحات العالم

انتخــــاب أوبامــــا والأزمــــة العـــالميــــة

مروان اسكندر
حظي انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة بترحيب وتأييد من غالبية شعوب البلدان التي تمارس مقدارا من الديموقراطية. والاسباب واضحة، أهمها ما يأتي:
– محا انتصار أوباما صورة التعصب العرقي والديني، ودموع الفرح التي انهمرت من عيني القس جيسي جاكسون عبرت عن فرحة الاميركيين السود بانفتاح أبواب المسؤولية على أعلى المستويات للمقتدرين من أي عرق أو خلفية دينية. وبالنسبة الى بقية العالم، أظهرت الانتخابات ان البلد الاقوى عسكرياً واقتصادياً لا يزال يتمتع بالديموقراطية نفسها.
– حقق أوباما، وهو مواطن وعضو في مجلس الشيوخ، يعيش في ظروف حياتية ميسورة نسبيا، فاعلية تنظيمية كبيرة لحملته الانتخابية، وهو الذي حافظ على اعصابه الهادئة طوال هذه الحملة، سواء ليحظى بتسمية الحزب الديموقراطي في وجه هيلاري كلينتون، التي بدأت حملتها وكأنها في طريقها الى البيت الابيض، او في وجه اليمين المسيحي الذي يمثله جون ماكين، الذي عزز هذه الصفة باختياره سارة بايلين لنيابة الرئاسة، وكان هذا الخيار خطأ استراتيجياً ارتكبه ماكين.
– تابعت الانتخابات طريقها وتصاعدت حدتها خلال الشهر الذي شهد تفجر أحلك أزمة مالية واقتصادية في الولايات المتحدة، وترددت موجات الازمة المالية العالمية في جميع البلدان التي اختارت منهج العولمة وحرية القطع والأسواق المالية. وخلال شهر تشرين الاول 2008، توسعت الازمة من ازمة مالية الى ازمة مالية اقتصادية ستؤدي الى انكماش عالمي لفترة سنتين، وربما الى انهيار الاقتصاد العالمي في هاوية الكساد، فتكون هناك مآسٍ لا يمكن تقدير ابعادها منذ الآن.
والامر المهم ان الولايات المتحدة كانت السبب الرئيسي في الازمة الحالية، وان الولايات المتحدة ستواجه بالتأكيد بعد 12 الى 15 سنة ضغوط افلاس صناديق العناية الصحية، وصناديق العناية بالمسنين. وهكذا، فان عصر تسيير الاقتصاد على الحساب الجاري قد انقضى وحل محله عصر التخطيط المستقبلي المستند الى الاستثمار في الانسان وطاقاته وتحسين تفاعل الفرص بين المعطيات القانونية والتجهيزية والطاقات البشرية.
منذ أواسط الثمانينات، تاريخ توسع تأثير التقنيات الحديثة، سواء منها طاقات الحواسيب الصغيرة او وسائل الاتصال عبر الاثير أو تحرير الاسواق المالية والعملات، توسع دور القطاع المالي في اقتصادات الاسواق المتقدمة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والمانيا وفرنسا واليابان، ومن ثم توسعت هذه الظاهرة في بلدان جنوب شرق آسيا، واميركا الجنوبية. وخلال القرن الحادي والعشرين اصبحت سوق اكبر بلدين شيوعيين سابقا – الصين التي لا تزال اسميا شيوعية وان تكن اكثر رأسمالية من روسيا البلد الشيوعي الثاني – مشاركة في ظاهرة توسع القطاع المالي على حساب القطاعات الاخرى، وبالأخص قطاعات انتاج السلع والخدمات الرئيسية، كالتعليم والعناية الطبية ورعاية البيئة، الى آخره.
ان مسرح الازمة المالية العالمية، التي تحولت ازمة مالية اقتصادية على نطاق عالمي، تلون بالمضاربات في الاسواق المنفتحة مدى 24 ساعة، وبتفلت الولايات المتحدة من مستلزمات ضبط وضع الموازنة وقيمة صرف الدولار، وبتراخي البلدان الصناعية ازاء السطوة الاميركية ونفسية الاستعلاء التي مارسها بوش وتشيني وزمرة المسيحيين الجدد الذين اعتبرهم كيفين فيليبس في كتابه “الثيوقراطية الاميركية” اسوأ حركات التعصب على صعيد عالمي، لان في مقدورهم انتخاب رئيس جمهورية أقوى دولة في العالم والدولة التي كانت تعتبر مثالاً للممارسة الديموقراطية ومسرحاً للابتكارات الاوسع عالميا.
اعاد انتخاب باراك أوباما بوصلة الحياة السياسية في الولايات المتحدة الى الاتجاه الصحيح، وبالنسبة الى تفاعلات الازمة المالية الاقتصادية يمكننا القول ان ثمة مؤشرين يدفعان الى التفاؤل بدور الرئيس الاميركي الجديد وتأثيره.
اولا: أبدى أوباما، وخصوصا خلال شهر تشرين الاول، تفهماً أكبر لطبيعة الازمة العاصفة بالاقتصاد الاميركي والعالمي، وطرح مبادئ حلول تبدو اكثر واقعية من الحلول التي عرضها جون ماكين.
وكان واضحاً ان الافق الفكري لأوباما، وقدرته على استيعاب الدروس، أوسع بكثير من قدرة ماكين، ولا تقارن بمدى الجهل الكبير لدى سارة بايلين.
خلال أقل من أسبوع ستنعقد قمة اقتصادية عالمية تهدف الى التوصل الى اقتناع بتجاوز مفاعيل الازمة القائمة بعد تخصيص موارد مالية تجاوزت ستة تريليونات دولار (ستة آلاف مليار دولار) بين الدول الاوروبية والولايات المتحدة ودول شرق آسيا وروسيا ودول الشرق الاوسط، وقد قام بدور المبادر الى وضع الحلول موضع التنفيذ رئيس وزراء بريطانيا غوردون براون، وهو يطالب بتعديل نظام النقد الدولي الذي وضعت اسسه عام 1944 في بريتون وودز وعدلت عام 1971 تاريخ التخلي عن نظام الارتباط الذهبي (تسعير اونصة الذهب بـ 35 دولارا).
وما يطالب به غوردن براون يطالب به الرئيس الفرنسي ساركوزي باسم الاتحاد الاوروبي الذي يرئسه حاليا، كما يطالب به الرئيس الروسي ميدفيديف، ويطالب به، ولو بخفر اسيوي، كلا رئيسي الوزراء الصيني والياباني.
بات من المعلوم ان من شروط تعديل نظام النقد الدولي – او تقويته – زيادة موارد صندوق النقد الدولي، وتحفيزه على توفير المعونات للدول في وقت قصير وبقوة، لكن هذا الهدف يستدعي بالتأكيد التحوط لأمرين.
ان زيادة موارد صندوق النقد الدولي تفرض زيادة حقوق تصويت الاعضاء الى مستويات مشاركتهم في موارد الصندوق، ومقاربة نسبة المشاركة الى حجم اقتصاد الدول المعنية في الاقتصاد العالمي. وحقوق التصويت الحالية مريبة، فهي تعطي الولايات المتحدة حق الفيتو على اقرار برامج المساعدات، وفي الوقت ذاته تحظى دولة كاللوكسبور مثلاً بأصوات تفوق في العدد والأهمية ما تحظى به الصين، صاحبة الاقتصاد الرابع في العالم على صعيد حجم الانتاج وتنوعه، واقرار التعديلات لا بد ان يسبق التزامات التمويل، وهذه امور ستطلبها بكثافة الدول المتمتعة باحتياطات كبيرة، كالصين التي لديها 1،9 تريليون دولار، واليابان ولديها نحو التريليون دولار، ومن ثم أبو ظبي التي تحظى بنحو 850 مليار دولار، فروسيا التي لديها 700 مليار دولار، وسنغافورة ولديها 500 مليار دولار. وقد تفرض هذه الحاجة الملحة اعطاء الدول المعنية أصواتاً تتناسب مع المطلوب منها تخصيصه لزيادة موارد صندوق النقد الدولي.
ولا شك في ان الميزة الثانية التي يتمتع بها الرئيس الاميركي الجديد، اضافة الى اتساع ثقافته وذكائه، هي فريق عمله الاقتصادي الذي يضم بعض أميز الاقتصاديين والماليين عالميا ومنهم:
– بول فولكر، رئيس الاحتياط الاتحادي (المصرف المركزي) حتى عام 1986، وهو الذي أعاد الصحة الى الدولار وكبح التضخم في الثمانينات.
– روبرت روبن، وزير المال في عهد كلينتون، ورئيس مؤسسة مصرفية استثمارية كبرى.
– لاري سمرز، اقتصادي متميز رأس مجلس اقتصاديي الرئيس الاميركي كلينتون ومن ثم تولى وزارة المال بعد روبن، ورأس جامعة هارفرد حتى نطق كفرا بان النساء لا يتمتعن بطاقة الرجال عقليا، فأقيل من منصبه، وعساه يتفاعل ايجاباً مع ميركل الالمانية، ولاغارد الفرنسية.
– بول كروغمان، استاذ الاقتصاد والمعلق المعروف الذي حاز جائزة نوبل للاقتصاد 2008 وكان ينتقد سياسات بوش المالية والاقتصادية وتقاعس الرئيس السابق للاحتياط الاتحادي ألان غرينسبان منذ سنوات.
– وارن بافيت، أكبر وأنجح مستثمر في الولايات المتحدة، وهو الذي وصف المشتقات المصرفية وقروض المنازل المشكو منها بالقنابل الموقوتة في النظام المصرفي والمالي.
على رغم الفريق الاميركي المتميز الذي سيكون العنصر المقرر في مجال تعديل نظام صندوق النقد الدولي، سيبقى هناك السؤال الاهم:
بعد زيادة الموارد، وإن تحققت ستكون من الصين واليابان وبلدان الخليج النفطية والاتحاد الاوروبي وروسيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية، لا بد من تعديل مناهج عمل صندوق النقد الدولي وسياساته. فمرتكزات معالجة اوضاع الدول التي اعتمدها الصندوق في السابق كانت كارثية في الكثير من الاحيان، وهي بصورة عامة كانت تقدم الاعتبارات المالية على الاعتبارات الاقتصادية.
ولذلك، قد لا يكون صندوق النقد الدولي، بالممارسات التي اعتادها وبجهازه الوظيفي، المركز الافضل لمعالجة الازمة الاقتصادية المالية العالمية. وآلية تفاعل بين المصرف المركزي الاوروبي ومصرف يؤسس لدول جنوب شرق أسيا، وصندوق النقد العربي بعد تعزيز موارده تكون أفضل من الاعتماد على صندوق النقد الدولي، وفي أي حال ثمة ضرورة كبيرة لتعديل اسس التصويت في الصندوق حتى قبل زيادة موارده.
ان الامل في التوصل الى اتفاقات مجدية في واشنطن في 15 تشرين الثاني وما بعده تعلّق على الخوف من الانحدار الى الكساد، وعلى شخصية غوردون براون ومنهجيته، لانه يمثل الدولة الاقرب الى الولايات المتحدة، وعلى انفتاح الرئيس الاميركي الجديد وفريقه على الافكار الاصلاحية. ويبدو بوضوح ان هذا الفريق افضل بكثير من فريق بوش.
يبقى هناك شرط أساسي لا بد ان يواكب الاصلاحات النقدية الاقتصادية، الا وهو توسيع عضوية مجلس الامن وتعديل نظام الفيتو. فاليابان لن تقرر الانخراط في الاصلاح المالي وتقديم الموارد ما لم تكن عضواً في مجلس الامن، وكذلك المانيا ومن بعدها الهند والبرازيل، الخ.
ان النظام العالمي المالي والاقتصادي في حاجة ماسة الى اعادة صياغة، وكذلك، والى حد بعيد، الى صلاحيات، وعضوية مجلس الامن وحقوق الفيتو في حاجة هي الاخرى الى اعادة نظر.
التحديات كبيرة لباراك أوباما، ومن المؤكد انه الخيار الافضل لمعالجتها مع فريقه المميز، فعسى خيرا.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى