صفحات العالم

بعد أوباما: لا تكتمل الديموقراطيّة من غير «مجتمع مفتوح»

صالح بشير
لن نفرغ قريبا، وقد لا نفرغ قط، من استنطاق الحدث الانتخابي الأميركي الأخير، من استكناه مآتيه وما منحه حظوظ الإمكان، ومن استخلاص مآلاته ومدى فعله واحتمالات ذلك الفعل في الواقع وفي التاريخ، على ما هي حال كل حدث تأسيسي، استثنائي بصفته تلك، ولا غرو في أن انتخاب الإفريقي-الأميركي باراك أوباما رئيسا للقوة العظمى الوحيدة في العالم، في عداد ذلك الضرب من الأحداث وفي مصافها.
لعل ذلك ما يفسر عسر توقّع حدث مثل ذاك، لأن الاستثناء، طبيعةً ومبدأً، لا يُتوقع. لذلك، نكاد نجزم أن أحدا لم يتوقع فوز أوباما، وأن من فعلوا، وهم كثر، عبروا عن توق قد يكون «لاعقلانيا» واستبقوا رغباتهم فجعلوا أحلامهم توقعات، فكان من حسن حظهم، إن جازت هذه العبارة القاصرة، أن سارت أمور الاقتراع الأميركي في اتجاه توقهم، أما من استبعدوا ذلك الفوز، فقد لاذوا بمقاربة حسبوها عقلانية، اعتبروها متينة لـ»موضوعيتها»، متشائمة لفرط برودتها، فتقيدوا بحتميات تصوروها محدِّدة مُلزِِمة، من قبيل أن المجتمع الأميركي، في حدود المعرفة به وبتاريخه البعيد كما القريب، لم يفصح عما من شأنه أن يشي بتحوّل كذلك الذي أفضى إلى انتخاب أوباما (كان الأميركان قد ثبتوا جورج بوش على رأس الولايات المتحدة قبل أربع سنوات فقط) وبما يوحي بتجاوز المسألة العرقية، وهي من العناصر التكوينية لـ»الجماعة» الأميركية على ذلك النحو وبمثل ذلك اليسر… ينوه كاتب هذه الأسطر، معتذرا مُقرّا بقصور، بأنه كان من أولئك «المُستبعِدين»، وإن لم يكن الاستبعاد ناجما عن تحفظ حيال أوباما وما يدعو إليه أو عن عداء.
يبقى أن الأمر ذاك يطرح أسئلة ويحض على التفكير: هل أن الحلم أفعل وأجدى، أداةً معرفية، أقله أحيانا، من «العقلانية» المتمسكة بتلابيب الموضوعية أو ما تحسبه موضوعية؟ ذلك سؤال شاسع كبير، لا يتسع هذا المجال للخوض فيه، ولكن التعذر ذاك لا يحول دون الإدلاء بملاحظة هي تلك التي مفادها أن الحالم في مثل هذه الحالات، ليس مجرد موضوع، بل هو ذات فاعلة مبادِرة، مُرشّحا أو مقترِعا، وهو لذلك صانع لتوقعاته، قادر بصفته تلك، وإن بمقدار، على تجاوز المعوقات «الموضوعية»، أو التي تبدو كذلك، أو على مداورتها، وعلى اقتراح البدائل واجتراحها.
وذلك ما قد يكون الدرس الذي تلقننا إياه الانتخابات الأميركية الأخيرة أو أنها تذكرنا به، حيث تبدو حرية الفرد شرطا لتجسيد أحلام الجماعة، لنيل تحول وتغيير بعيدي الغور، كذينك اللذين تحققا بفوز أوباما، مثالا للأقصى وللأفضل الذي يتيحه «مجتمع مفتوح»، إن نحن استعرنا عبارة للفيلسوف كارل بوبر. ذلك أن الولايات المتحدة، بالرغم من بوش وما ومن يمثل، بالرغم من العنصريين ومن المهووسين بالأسلحة الفردية ومن المدمنين على تديّنٍ عصابي إدمان سواهم على المخدرات، «مجتمع مفتوح» بقدر ما هي «مجتمع ديموقراطي». ليس بين المجتمعيْن ذينك من علاقة ترادف، ضرورة ولزاما. النظام الذي كان حاكما في جنوب إفريقيا كان نظاما ديموقراطيا، أقله من الناحية الإجرائية، مكتمل شروط الديموقراطية إلى درجة المثال أو تدانيها، ولكنه لم يكن نظام مجتمع مفتوح، وهو لذلك انهار على نحو ما انهارت الأنظمة التوتاليتارية (وبالتزامن معها) جراء انفجاره من الداخل أو لعدم قدرته على تجديد نفسه. وقد يصحّ هذا التشخيص أيضا على ديموقراطية الدولة العبرية.
عنصر تمايز التجربة الأميركية لا ينحصر إذن في ديموقراطيتها، بل يتعداه بالتأكيد إلى استناد هذه الأخيرة إلى مجتمع مفتوح، تعبر عنه تلك الديموقراطية وتمثل أداة تنظيمه ووسيلة «إدارته». قد لا يُفسَّر الانقلاب التاريخي الذي جد يوم الثلثاء الماضي إلا بتلك السمة، تلك التي تجعل المجتمع مشرعا في نهاية المطاف على مكوّناته،  مهما سامها إقصاء وتهميشا قد يطول، في هذا الطور أو ذاك من أطوار تاريخه، كما تجعله مشرعا على المستقبل. إذ وحده مثل ذلك المجتمع المفتوح يمكنه أن يفضي إلى أفق ما بعد عرقي، كذلك الذي بشر به أوباما طوال حملته الانتخابية، وإلى بلوغه، وذلك ما قد لا تفي به الديموقراطية بمفردها، إذ بإمكان هذه الأخيرة، خصوصا في مجتمع متعدد الأعراق والفئات الإثنية والثقافية والدينية وسواها، أن تكون، بكل ديموقراطية، أداة لإعادة إنتاج التفرقة، إلى ما لا نهاية، حيثما أمكنت المطابقة بين أكثرية أو أقلية فئويتين، وأكثرية أو أقلية عدديتيْن، حاجزا يتعذر تجاوزه.
لذلك، قد تكون المجتمعات المفتوحة الأقدر على إنجاز الثورات بالوسائل السلمية والديموقراطية والأكفأ في تحويل بطاقة التصويت إلى أداة تغيير جذري، ولا شك أن ما حصل يوم الثلثاء الماضي تغيير من تلك الطينة. أي أن المجتمعات المفتوحة قد تكون الوحيدة التي جعلت الثورة ممكنا من ممكنات الديموقراطية، مع أنه يُفترض في هذه الأخيرة أنها جاءت، لأنها تدرجية بطبيعتها، لتفاديها، لاستبعاد التحولات الجذرية والفجائية، أو أن الديموقراطية إذ تسبّق المصلحة الفردية، وإذ تقوم على استمالة القطاع الأوسع، تميل غالبا إلى المحافظة وإلى مراعاة القوى الماثلة في المجتمع، كما تتبدى عبر مؤسساتها الناظمة والناطقة بلسانها، أكانت تلك المؤسسات سياسية أو من أي طبيعة أخرى.
وقد تكون الولايات المتحدة، من خلال انتخاباتها الأخيرة، بل ثورتها الأخيرة، اقترحت مقاربة مجدية وفاعلة لتجاوز مشكلات المجتمعات المتعددة، لتجاوز معضلة الانتماءات الصغرى والتكوينية في زمن العولمة هذا الذي يبدو عاملا من عوامل استيقاظها وتجليها إشكالا تواجهه مجتمعات عدة، حتى في ذلك الغرب الديموقراطي، على ما هي حال بلجيكا على سبيل المثال، وما شهدته في الآونة الأخيرة من تمزق هز تماسكها بين سكانها الناطقين بالفرنسية وسكانها من الفلامنديين، ناهيك عن مجتمعات أكثر «إكزوتية»، شأن مجتمعات منطقتنا.
إذا صح ما سبق، فإنه لن يكون أكثر من فيض من غيض دلالات ذلك الحدث الأميركي الاستثنائي والتأسيسي، والذي لن نفرغ قريبا وقد لا نفرغ قط من استنطاقه…
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى