على هامش الاتفاقية الأمنية العراقية ـ الأمريكية
هيثم مناع
كنت قد بدأت الكتابة حول الاتفاقية الأمنية العراقية ـ الأمريكية عندما وقع في يدي عدد صحيفة ‘اللوموند’ الفرنسية وعنوانه الرئيسي: 25 ألف مليار دولار تتبخر. قلت لنفسي، عندما يتبخر في أزمة شهرين ما يكفي لنهضة اقتصادية تجعل من القارة الإفريقية قوة عظمى، ما هي القيمة الفعلية لأوراق توقعها إدارة بقي لها أقل من سبعين يوما في الحكم مع مافيات سياسية تعيش على رمال متحركة؟
بالطبع كل شيء نسبي. وفي علم اللاهوت، المطلق للرحمن وليس للإنسان. لكن في الواقع الملموس، كيف تسير الأمور وإلى أين؟ وما هو ذنب الأجيال العراقية القادمة لتدفع فاتورة طغيان مستبد حطم الشعب في دولة مركزية تسلطية، ومحتل متهور متغول حطم الدولة وترك لأعوانه اللامركزية؟ ما هو ذنب شعب حكم عليه بالعودة تسعين عاما للوراء ليناقش مع الأمريكيين ما ناقشه الأجداد مع المستعمر البريطاني؟
مع كل نهاية أجل، يثبت الاحتلال الأمريكي أقدامه بعكس التاريخ وضد الإنسانية بقرارات مذلة للشعب العراقي. هكذا فعل الاحتلال يوم انتهت صلاحيات بول بريمر الحاكم العسكري الأمريكي. يومها أصدر قراراته العشرة الأخيرة لتصبح أقوى من وصايا العهد القديم. فحتى اليوم لا يستطيع نائب عراقي أن يناقش ولاية مستشار الأمن القومي، كما لا يملك قاض عراقي الحق في محاسبة طباخ أمريكي يغتصب مواطنة عراقية. فكيف بجندي يقتل عائلة بأكملها دفاعا عن النفس؟
لقد اشترت الإدارة الأمريكية ما تستطيع، من صحافيين وسياسيين، بل ونشطاء حقوق إنسان لتجميل صورة الاحتلال. أو اعتباره أمرا واقعا يفترض الإنطلاق منه لبناء المستقبل. حسب النائبة مها عادل الدوري، تبلغ ميزانية مجلس الرئاسة العراقية 25 مليار دولار، في حين لا تتعدى ميزانية وزارة الصحة مليار دولار! هل ثمة فساد وشراء للضمائر والمواقف أكثر صفاقة من هذا الفساد العلني؟ ومع ذلك، ترتجف اليوم أوصال ‘الفئة المفوضة أمريكيا بالحكم’ من الضغوط الأمريكية الكبيرة لتوقيع الإتفاقية مع خوف أكثر من مجتمعاتها، اللهم باستثناء المسؤولين السياسيين الأكراد.
استوقفني كثيرا هذا الموقف لأنه يطرح أسئلة كبيرة، ليس فقط على صعيد مستقبل وحدة العراق، ولكن على صعيد سياسي ـ اجتماعي ـ نفسي لهؤلاء الذين لم يختلجهم أي شك من الفائدة العظيمة للاتفاقية المذلة. ودون أية أحكام مسبقة أجد من حقي السؤال: هل القيادات القومية الكردية في العراق، التي جعلت النضال القومي مركز تفكيرها السياسي، وضحّت بالغالي والنفيس من أجل القضية الكردية، وجعلت من ميليشيا البيشمركة جيشا مقدسا، وتعتد بكونها بنت المنطقة الأكثر استقرارا وتنظيما في البلاد، هل تعرف هذه القيادات معنى السيادة؟ هل تدرك معنى بناء الدولة، وهل هي أهل لبناء دولة كردية أو حكم ذاتي جدير بالتسمية؟ عندما تتهم المعارضة العراقية الحزبين الكرديين بالمشاركة في هدم دولة أكبر اسمها العراق، والسمسرة على بقاء مستعمر تطمع منه بمكاسب حزبية ومحلية ضيقة، ألا يجد هذا النقد صداه في تصريحات القابلية للاحتلال عند القياديين الأكراد؟
في 1995، جرى نقاش مع أمين بختيار في باريس حول الحصار المفروض على العراق. وكان يومها مدافعا شرسا عن هذا الحصار وبشكل علني، رغم تعاونه مع مؤسسة تعتبر الشرعة الدولية لحقوق الإنسان مرجعا لها وترفض منطق العقوبات الاقتصادية. فقطع النقاش بجملة قطعت وشائج علاقتنا: أمام الشعب الكردي فرصة تاريخية في التعاون مع القوة الأعظم في العالم. هذه فرصة لا تتكرر مرتين في التاريخ. يومها أجبته إن كان مازال يذكر: ‘ناضلوا إذن بأمانة وشرف من أجل دولة كردية مستقلة، ولا تجعلوا أربعة أخماس الشعب العراقي يدفع ثمن الحصار الجائر المفروض عليه’.
لا تقل مسؤولية الكردي العراقي أو تزيد عن ذاك العربي المرهون لقوات الاحتلال الأمريكية. ومن المضحك أن نقرأ حتى اليوم مقارنات عن بناء القوات الأمريكية للبنية التحتية الاقتصادية والديمقراطية في اليابان وألمانيا، وضرورة انتظار غودو باستعارة عنوان مسرحية صموئيل بيكيت. إلا أن ميزة هذا الغرب اللعين أن فيه من يتحدث عن غياب أي تصور للبناء، وهيمنة عقلية الكسب السريع في أكبر عملية سرقة في الأزمنة الحديثة. فاللواء الأمريكي ويليام ماكوي يقول بكل صراحة في وصف الوضع العراقي: ‘كل ما يمكن تخيله حدث وفي كل القطاعات’. ومن المثير للاشمئزاز، أنه ومنذ 22 أيار/مايو 2003 شارك مجلس الأمن في الفساد والاحتلال عندما أنشأ صندوق تنمية العراق لتلبية الحاجات الإنسانية للشعب العراقي. فخلال 13 شهرا، أنفق المسؤولون في سلطة التحالف 19.6 مليار دولار، أي أكثر من تسعين بالمئة من مخصصات الصندوق، كما يلي: 74′ للشركات الأمريكية، 11′ للشركات البريطانية، 2′ فقط للشركات العراقية. وكان 60′ من العقود خاص بشركة الانشاءات الأمريكية هاليبورتون، التي عمل فيها نائب الرئيس الأمريكي ديك شيني قبل توليه منصبه. من دون إجراء مناقصات نظامية وحتى اليوم ما زالت سجلات المرحلة إما غامضة أو غير موجودة البتة.
هذا الدرس الأمريكي في الفساد، الذي اعتمد ‘قيم’ المحاصصة المذهبية والقومية والمالية، سيكرره الكارتل الحاكم عبر نفقات خيالية لدواعي الأمن، وشراء الولاء، والضرورات الانتخابية، والاحتياجات الحزبية، وبناء الميليشيات الموازية، وأخيرا لعقود بناء لم تنجز ‘لأسباب أمنية’ وتبخرت موازنتها. فقط في المجال النفطي، يقدر مكتب المحاسبة الحكومي الأمريكي النهب السنوي في مجال النفط بأكثر من 110 ملايين برميل، ما يعادل خسارة مالية بأكثر من خمسة مليارات دولار.
بالتأكيد، يطول الحديث في الدولة الأولى للفساد في العالم اليوم، حسب منظمة الشفافية الدولية. ولكن تبقى مأساة أنها البلد الأول في الاستهتار بحق الحياة. فالكل يقتل: المرتزقة الجدد من أكثر من عشرين جنسية وثلاثين شركة أمنية خاصة، الميليشيات الجديدة والقديمة، الإرهاب المستورد والمحلي، الشرطة والجيش، وأخيرا بل أولا قوات الاحتلال.
هل بلغ عدد الضحايا المليون أم بعد؟ وإن كانت الجزائر قد حررت نفسها بحرب تحرير المليون، ما معنى أن يوقع العراق بعد كل هذه الخسائر البشرية والمادية على تمديد بقاء القوات المحتلة ؟
‘ كاتب سوري يقيم في باريس
القدس العربي