العراق من الاحتلال إلى الرهينة
سليمان تقي الدين
تحاول الولايات المتحدة الأمريكية فرض اتفاقية أمنية على العراق تحوّل الاحتلال إلى وجود عسكري منظم وقواعد شرعية. تنص الاتفاقية المعروضة من أمريكا على العراق والتي يراد إنجازها قبل نهاية ولاية الرئيس بوش على صلاحيات استثنائية غير مسبوقة لقوات الاحتلال تسلب العراق كل سيادته. لكن الأخطر أنها تعطي الأمريكيين الحق بشن الحروب في الخارج واستخدام العراق رهينة ودرعاً لهكذا مشروع.
إِن جزءاً مهماً من ممثلي الشعب العراقي في البرلمان وخارجه رفض هذه الاتفاقية، والحكومة العراقية تريثت وأعلنت عن رغبتها في إجراء تعديلات على مشروع الاتفاقية، لكن الأمريكيين أصروا حتى اللحظة على وجوب إقرارها بتفاصيلها الحالية، ولأن المعارضة قريبة جداً من إيران وسوريا كانت الرسالة الدموية الأمريكية على الموقع الحدودي في البوكمال.
تتضمن الاتفاقية الإقرار بالامتيازات والحصانات الشاملة للقوات الأمريكية وللمتعاقدين والمتعاملين معها سواء أكانوا من الشركات الأمنية الأمريكية البالغة 310 شركات حسب (نيويورك تايمز) أو كانوا من المواطنين العراقيين وتشمل هذه الحصانات الحماية من الملاحقة القضائية، وتضفي على هؤلاء الصفة الدبلوماسية فتمنع مساءلتهم وتميل في كل الظروف إلى القانون الأمريكي.
من جهة ثانية تتضمن الاتفاقية إباحة مطلقة للقوات العراقية والتابعين لها في ان تشن الحرب والملاحقات العسكرية على ما تسميه الإرهاب والقاعدة وفلول البعث وكل الأعمال العدائية. وعلى العراق أن يتحمل نتيجة هذه الحروب من غير ان يكون له الحق في المشاركة بالقرار أو الحصول على تعويضات عن الأضرار الناجمة عن الحرب. وباختصار تحول الاتفاقية العراق إلى رهينة بيد الأمريكيين والى درع تحمي وجودهم من غير ان تكون له أية سلطة على سلوكيات هذه القوات وتوابعها.
تتعمد الولايات المتحدة إنجاز هذه الاتفاقية قبل أي تغيير جدي في المناخ الدولي قد يعيق حركتها لاحقاً. كما تتعمد أن تجعل العلاقة تعاقدية بينها وبين العراق للتخلص من احتمالات إخضاعها للقانون الدولي والشروط الدولية للمعاهدات التي يمكن نقضها في حال عدم التكافؤ بين المتعاهدين.
لا تلتزم الولايات المتحدة بأي أفق زمني أو جدول حقيقي لخروج قواتها لأن شروط تجديد هذه الاتفاقية متروكة لادارة الفريقين وبعد انذار أحد الفرقاء الطرف الآخر قبل سنة من نهاية مدة الاتفاق. يتضح أن الاحتلال يستطيع أن يضغط لتبديل الظروف وإيجاد المعطيات والمناخات التي تحول دون إلزامه بالجلاء.
خارجاً على هذه القيود، فإن الوظيفة السياسية للاتفاقية هي شرعنة الاحتلال تحت مسمى آخر هو الاتفاقية الأمنية التي تعطل دور الأمم المتحدة في الرقابة على الاحتلال وإخضاعه لشروط القانون الدولي التي يتم انتهاكها يومياً. يريد الأمريكيون أن يقيموا في العراق أكثر من خمسين قاعدة عسكرية أساسية وأربعمائة قاعدة أمنية ثانوية. هذا الوجود الكثيف الذي ينسحب من النشاط اليومي في العراق للحفاظ على أمن يؤدي وظيفة إقليمية، يريد تحويل الاحتلال إلى سلطة دائمة للانطلاق من العراق نحو احتمالات حروب إقليمية أخرى. إن التطورات الجارية في الشرق الأوسط ومحيطه لا تتجه إلى المساعدة على جلاء القوات الأمريكية المنتشرة في المنطقة لأن انكسار أي حلقة من حلقات السيطرة الأمريكية قد يؤدي إلى تداعيات واسعة، وقد بدأت الأزمة الأمريكية تأخذ أبعاداً واسعة مع انحسار نفوذها في أفغانستان وسيطرتها في العراق وخلخلة النظام الباكستاني والفشل السياسي في معالجة ملفات فلسطين ولبنان، وكذلك الملف الإيراني.
لم يعد اليوم في قدرة أمريكا أن تفرض شروطها بالمطلق على العراق، فالادارة الأمريكية في حال الشلل، والإدارة الجديدة مضطرة للبحث عن سياسة خارجية وأمنية جديدة خاصة بعد الازمة المالية. وعلى الشعب العراقي أن يصمد أمام الضغوط في هذه المهلة القصيرة المتبقية ويرفض توقيع اتفاقية تجعله أداة للمغامرات المحتملة.
يقف في وجه هذا الرأي من يقول إن الاتفاقية تضع أفقاً زمنياً محدداً لإنهاء الاحتلال، وان هذا هو المكسب الأساسي منها لا سيما أن تمديد مدة الوجود العسكري الامريكي مرهون بموافقة الطرفين. إذا افترضنا حسن النوايا فإن كل هذا الكلام لا يصمد أمام واقعة أن الاحتلال يعيد تنظيم وجوده العسكري بهدف البقاء وليس الرحيل. فلا حاجة لمثل هذه القيود التي تضمنتها الاتفاقية لو أن الاحتلال عازم على إنهاء وجوده في مدة معقولة، سواء أكانت سنة واحدة أم سنتين. وفي حقيقة الأمر إن هدف الاتفاقية هو التملص من إمكانيات الرقابة الدولية واحتمالات نشوء مناخ دولي جديد ضاغط على أمريكا لإنهاء الاحتلال، فضلاً عن احتمالات تصاعد رغبة الشعب الأمريكي في عودة القوات إلى ديارها ووقف سياسة الحروب. هذه الاتفاقية هي التي تعطي الإدارة حجة قوية بوجه كل من يسعى إلى مساءلة أمريكا عن أهدافها من الاحتلال وعن الضحايا والخسائر والويلات التي تسببت بها.