صفحات مختارة

عن التحليل النفسي للمهجر والمنفى

محمد غيث الحاج حسين
شكَّل المنفى في القرن العشرين خاصّة واقعاً مريراً لكثير من الجماعات والشعوب والأفراد، وفي نفس الوقت هاجساً أدبياً لكتاب وروائيين وفنّانين عاشوا مرارته بكل أبعادها وفي مختلف أنحاء العالم. وربما كانت مقالة إدوارد سعيد تأمّلات في المنفى أو “ذهنية الشتاء” من العلامات البارزة في أدبيات المنفى لما تحمله من هاجس حقيقيّ أصيل تجاه وعيِ المنفى وقيم النفي. وبرأيه أنّ أيّ إنجازات أو نجاحات يحقّقها المنفيّ في المنفى، أيّاً كانت، لا يمكن أن تضفي أيّ قيمة إيجابية عليه، فالمنفى كالسّجن قضية غير إنسانية لا يمكن المساومة عليها أو تقبُّلَها حتى لو أنتجت نتاجات فنية عالية لدى بعض الأفراد. إذ علينا أن نفكّر بالأعداد الهائلة من البشر الذين أرغموا على الهجرة تحت ظروف قاسية، في رحلة يتسابق فيها الموت مع الحياة بسرعة هائلة، أشخاص هامشيون مجهولون سُحقوا وماتوا في صحراء أو غرقوا في بحر أو حتى استمرّوا في العيش في البلد الغريب في ظروف قاسية ولم يتمكنوا من التعريف حتى بأسمائهم أو ظروف حياتهم وموتهم.
في ألف ليلة وليلة كانت الرحلة السندبادية مغامرة فُرجة، مبنيّة على امتلاء وتخمة بالبلد، إذ لم تكن تعبيراً عن مغادرة قسرية، فالمغادرة والعودة كانتا قراراً شخصياً، لأنّ الوطن ثابت بظروفه وأحواله والمتغيّر هو الرحّالة الذي سيعود حاملاً في جعبته السردية، حكايات عمّا رأى وشاهد من غرائب جمعها من مختلف الأمصار والأصقاع، حكايات سردُها وتناقُلها والافتتان بها غاية، للسارد وللقارئ معاً.
كتاب “التحليل النفسيّ للمهجر والمنفى”، رغم عنوانه الآسر، فالقارئ يتوقّع مادة دسمة تُذِّكر بمقالة سعيد المذكورة سابقاً، يبتعد ولو قليلاً عن هذه الأجواء. وهو يقوم بتحليل أوضاع الهجرة والمهاجرين من منطلق الأمراض والاختلالات النفسية التي تصيب الأفراد والأسر جراء عملية الانتقال من جغرافية إلى أخرى. ويتحدّد أفق الهجرة وشكلها وصعوباتها في الوطن قبل المهجر، فالسفر إلى مكان آخر بقصد العمل أو الدراسة مع ضمان عودة آمنة إلى الوطن أمر يختلف عن السفر إلى البلد الأجنبيّ هرباً من ملاحقات سياسية وقانونية تضع المهاجر أمام خيارات لا رحمة فيها. والكتاب ركّز تحليله على الجانب الأوّل من الموضوع أكثر من الثاني، على عكس مقالة سعيد، طبعاً ستكون الصعوبات في الحالتين نفسها، صعوبات التأقلم والتكيّف، تعلُّم لغة جديدة، التخلّي عن العادات القديمة واكتساب أخرى جديدة خاصّة بالبلد المضيف، والأهمّ من ذلك العملية ثنائية الاتّجاه الخاصّة بالمحافظة على الأنا ومنع تفتّتها في الوسط الجديد ودعم قدرتها على التعايش والاستمرار والتواصل في البلد الجديد ضمن الشروط الطارئة، فغالباً ما تسيطر المشاعر السلبية على ذهن المهاجر، مشاعر من الحقد والحسد والمرارة ضدّ سكان البلد المقيم كونهم ينتمون إلى مكانهم الطبيعيّ على عكسه هو، وهو يعي جزئياً أنّ مشاعره تلك ليست سوية أو صائبة ولكنه يجد نفسه أسيراً لها رغماً عنه، وربما كان تعقّد هذه المشاعر وتداخلها هو الذي يجعل من الأدب والفن عموماً الشكل الأكثر تعبيراً عن تناقضات المنفى وقسوته، وهو الجانب الذي كان يمكن أن يغني الكتاب أكثر لو تم استخدامه بالشكل الأفضل.
تنطوي عملية الهجرة بشكليها، الطوعي والقسريّ، على مراحل تبدأ بولادة الفكرة والسعي إليها لتحقيقها، ومن ثمّ السفر والوصول إلى البلد الجديد مع ما يتضمّنه ذلك من طقوس وداع ومشاعر حزن ورثاء وأسف، بل وشعور بالذنب، على ترك الأهل والأحباب، لتحصيل حياة شخصية مستقبلية أفضل من حياتهم الحالية، مشاعر سلبية قد تستمر طويلاً وتأخذ أشكالاً مرضية تتنوع آثارها وتبعاتها بحسب العمر والجنس والوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ للشخص نفسه. فالطفل يختلف في استجابته تجاه الهجرة عن استجابة الراشد، فقدرته على التلاؤم والتكيّف قد تكون أسرع وأيسر، وأيضاً يمكن من ناحية أخرى أن تأخذ منحى مرضياً شديداً يطبع حياته كلها حين لا يحدث هذا التلاؤم من الأساس. وضمن هذا الاتجاه يمثل المهجر حقل اختبار لمدى قوة الشخصية وقدرتها على التحمّل وعلى مدى صلابة نواتها الداخلية تجاه ما خارجيّ. وكما تتحدّد طبيعة الهجرة وإشكاليتها من الوطن أساساً، كذلك تتحدّد طبيعة الاستجابة النفسية من ذات الشخص نفسه. فحتى لو كانت ظروف الهجرة جيدة قد تكون الاستجابة مرضية والعكس صحيح أيضاً، فالقدرة على احتواء صدمة الهجرة واستيعابها ترتبط ببنية الفرد النفسية ومعرفته بذاته وبالآخرين.
الهجرة كـ”ولادة كارثية الشكل”، هي عنصر إعاقة مؤقت يطرح على المهاجر عودة غير سارّة إلى التفكر في مسلّمات وبديهيات أسّس عليها حياته الخاصّة في بلده دون أن يضطر يوماً إلى مساءلة نفسه عنها وعن جدواها وضرورتها. الظرف الجديد في البلد الأجنبيّ تدفعه إلى ذلك دفعاً، وهي لا تتعلّق فقط بقضايا السكن والمأكل والمشرب بل أيضاً بقضايا الهوية والقيم واللغة والعادات والتقاليد وهي أمور لا يمكن هضمها وقبولها دفعة واحدة بل تتمّ على فترة زمنية طويلة نسبياً وتتأكّد مركزيتها أكثر فأكثر بالفروقات والاختلافات التي تظهر للعيان بين أبناء الأجيال الأوّل والثاني والثالث من المهاجرين. وفي حين تحتلّ قضية الهوية والقيم مكان الصدارة في قائمة الأولويات المعنوية لدى المهاجر وتسبّب أحياناً صراعاً داخلياً عنيفاً ذا بعد عاطفيّ، بين الوفاء لقيم البلد الأصليّ والاستجابة لقيم البلد الأجنبيّ، نرى أنّ حدّتها تأخذ أشكالاً أقل حدّة وصراعية لدى أبناء الجيلين الثاني والثالث بل ويصبح التفكُّر فيها أكثر تنظيماً وعقلانية وأقل عاطفية.
تمثل اللغة نظام ارسال واستقبال عالي الدقة والحساسية في عملية التواصل الإنسانيّ للمهاجر بمحيطه الجديد وفيها تنتظم مفاتيح الحياة والموت الرمزيّ في المنفى، ويمكن أن تكون عامل دمج وانخراط أو عامل إقصاء واستبعاد. واللغة في كلا الحالتين من أكثر العوامل قدرة على بناء العالم الجديد الذي يخصّ المهاجر وحده ويعبر عنه، عالم لا يشبه بلده الأصليّ ولا ينتمي كذلك إلى البلد المضيف. وبحسب تشومسكي “بأنه بدءاً من اللغة يمكن تنظيم العالم. لأنّها تخدم وكعضو فاعل الفكر والوعي وردود الفعل؛ وتضفي استقلالاً على العقل والفكر بمواجهة الحدث المعاش”. وكما حدث مع يانكو بطل جوزف كونراد في قصة “آمي فوستر”، لم يستطع المهاجر أن يتواصل مع محيطه ويتعلم لغته رغم زواجه من فتاة انكليزية، وهذه الحالة جعلته يموت وحيداً يائساً كما كل “ضحية من ضحايا المنفى في روايات كونراد يخاف، ويتخيّل دائماً مشهد موته وحيداً تحت بصر عيون لا تستجيب ولا تتصّل” (والاقتباس من مقالة ادوارد سعيد تأمّلات في المنفى).
الكاتبان بحسب التعريف بهما، من أصل نمساويّ ترعرعا في الأرجنتين وعملا عدة سنوات في إسرائيل، التي قدّماها في الكتاب كنموذج بحثيّ فيما يتعلق بالآثار المختلفة والمعقّدة التي يتركها المهجر على الأفراد (من اليهود فقط) و”كما نعرف، أنّ إسرائيل ومنذ نشأتها فتحت أبوابها وخلال سنوات قلة، لأفواج من المهاجرين ممن لم تربطهم أية رابطة تذكر بالسكان الأصليين للبلد”. طبعاً من الواضح الإجحاف والظلم الواقع في هذه الإشارة المقتضبة والسريعة التي يؤاخَذ عليها الكاتبان بالنسبة لقضية كبيرة بحجم القضية الفلسطينية والتي تنطوي بشكل خاصّ على مفارقة نادرة (كان يمكن أن تغني الكتاب) أن الفلسطينيين هم ضحايا الضحايا، الأمر الذي يستدعي تبصّراً وتحليلاً أعمق من مجرّد إشارة سريعة وإن كان نفي الرابطة التاريخية المزعومة بين اليهود وفلسطين تبدو إيجابية تماماً.
التحليل النفسي للمهجر والمنفى
تأليف: ليون غرينبرغ وربيكا غرينبرغ
ترجمة: تحرير السماوي
إصدار دار المدى: 2008  دمشق – سورية
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى