الإفتاء الصادق في الفأر الفاسق
حنا عبود
علت أصوات كثيرة احتجاجاً على الإفتاء بشأن الفأرة الفويسقة. ومن بين هذه الأصوات رجال دين. وقام الاحتجاج على تفنيد الحجج من جهة، وعلى تفاهة الموضوع من جهة ثانية. وعلا الصراخ بأن مثل هذه الفتاوى تطرح مسائل أمام الأمة هي في غنى عنها، فبدلاً من الإفتاء ضد المشاريع الغربية التي تجتاح العالم العربي والإسلامي، وبدلاً من الإفتاء ضد المشروع الصهيوني الذي يتغلغل أكثر فأكثر في عقلية بعض المسؤولين، أكثر مما يتغلغل في ديار المسلمين؛ اتجه الإفتاء إلى ميكي ماوس والفأرة الفويسقة.
والغريب أن أحداً من المعارضين لم يطرح الفتوى طرحاً جاداً، فكلهم مال إلى السخرية، حتى من عارضوها من رجال الدين، لم يقدموا رأيا شرعياً، بل اكتفوا بأن الظروف القائمة تجعل من الفتوى نوعاً من تضليل الفكر الإسلامي. فتصوروا دار الإسلام على رحبها واكتظاظها السكاني تنخرط في سجال حول الفأرة الفويسقة والأزمة العالمية تجتاح هذه الدار بقوة عاصفة. ويأسف بعضهم لأن المفتين أكثروا من الإفتاء في الفأرة والراقصة والمغنية والمحطات الفضائية الداعرة، ولم ينطقوا بكلمة واحدة عن الأزمة العالمية، ناهيك عن الأزمة الفلسطينية والعربية والإسلامية.
المرأة التي تعرض للقمر دراهمها
وصار عرض العضلات يغلب على الطابع العلمي في مناقشة الإفتاء، فقد عمد المعارضون إلى اقتراح الإفتاء في القضايا المهمة، من غير أن يناقشوا البعد الثقافي في «الفأرة الفويسقة». وهذا عيب فيمن يدعون العلمانية.
ولكن من جهة أخرى نرى أن الذين يفتون أنفسهم يطمسون الناحية الثقافية ويقتصرون في فتواهم على النصوص الدينية والفتوى الشرعية، مع أن من الأفضل والمستحسن أن يقدموا للمؤمنين الخلفية التاريخية لفتاويهم.
وهكذا صرنا أمام طرفين: الأول يفتي بناء على نصوص، وليس على تأصيل تاريخي وثقافي، والثاني يسفه الإفتاء بحجة الظروف القائمة.
ويرى مثقفو هذه الأيام أن من السخافة اتخاذ مثل هذا الموقف من الفأرة، وهي التي تقدم جزيل الفائدة للإنسان، فكل مختبرات الصيدلة والطب والأبحاث العلمية مملوءة بالفئران لإجراء التجارب، وقد تبين أن كل ما يختبر على الفأر ينطبق على الجسد البشري.
وهكذا نجد أن المعرفة التاريخية بعيدة عن السجالات الدائرة، مع أنها وحدها التي تلقي الضوء على هذه الظاهرة، وعلى كثير غيرها من الظواهر. فنحن نمارس، أو نعلن مواقفنا من الظواهر الثقافية من غير إدراك لحقيقة المسألة. فالمرأة التي تعرض للقمر دراهمها في الليل، إنما تمارس بقايا ديانة قديمة جداً، وهي الديانة القمرية. والعذراء التي تغتسل بالزوفا والسعتر البري في الحادي والعشرين من مارس (آذار)، قبل بزوغ الفجر لا تدرك أنها تمارس عادة ترجع إلى آلاف السنين. والرجل الذي يقطع الوادي أو الغابة ليلاً ولا يلتفت وراءه، لا يعلم أنه يمارس ما كان يمارسه أورفيوس عندما أراد استعادة زوجته من العالم السفلي، وما كان يمارسه أهل سادوم وعمورة عندما خرجوا من قريتهم، حتى لا ينقلب من يلتفت خلفاً إلى عمود ملح، كزوجة لوط… المهم أن هناك الكثير والكثير جداً من العادات والثقافات التي نمارسها ولا نعرف خلفيتها، لأنها ترجع إلى أديان قديمة جداً كانت سائدة في هذه المنطقة.
إنجيل السحرة
أما قصة محاربة الفأرة فترجع إلى العصور الوسطى. فلما سادت المسيحية ولم يبق من سند لأنصار دين الطبيعة سوى اللجوء إلى السحر للحفاظ على أنفسهم، وفي هذه العصور ظهر إنجيل اسمه «إنجيل السحرة» وقد ترجمه عن الإيطالية الكاتب الأميركي تشارلز غودفري ليلاند ونشره عام 1899 ولم يمتد به العمر حتى يقدم ما توصل إليه من معارف في كتب لاحقة.
ونقرأ في هذا الإنجيل أن ديانا (وهي ربة القمر) طافت الحقول وهي تحمل بيدها حقيبة. وبعد هطول المطر ظهرت الفئران فراحت تمسك بكل فأرة وتودعها الحقيبة. ثم ضغطت على الحقيبة فانفجرت وصعدت الفئران إلى السماء وصارت نجوماً. وطلبت ديانا من النجوم (التي هي فئران) أن تخدم جميع البؤساء والمضطهدين وتحميهم من الإقطاعيين الذين انتزعوا أراضيهم، ومن كهنة المسيحية الذين يحاربونهم لصالح الأغنياء طبعاً.
وهكذا صار لهؤلاء المحرومين من كل وسائل الحياة قوة يهرعون إلى الاستنجاد بها، وهي «النجوم»، وعن طريق النجوم يمكن أن يؤثروا في الحياة والأحياء، وهم بذلك يحمون أنفسهم من جهة، ويبيدون خصومهم من جهة ثانية، وقد انتشرت عقيدة النجوم حتى بين المسيحيين، من أمثال دانتي…
الفأرة النجسة
وقد عرف المسيحيون من رجال الدين بهذا الإنجيل وعرفوا استعانة أبناء الديانة الطبيعية بالنجوم، كما عرفوا أن النجوم منحدرة من الفئران، فأعلنوا مكافحة السحرة وأقاموا محاكم التفتيش التي استمرت قرونا، ووصلت إلى الولايات المتحدة، ومنذ ذلك الوقت راحوا يلعنون الفأرة لأنها مطية الشيطان، ولأنها تخدم «الوثنيين» في ممارسة السحر، بل إنهم خصصوا عيداً لمكافحة الفأرة وجعلوه في ذكرى القديسة بربارة، وموعده قبل عيد الميلاد بأسبوعين تماماً، وجعلوا الناس يعتقدون أن القديسة بربارة تخلصهم من الفأرة النجسة (المقصود بالنجسة هنا أن الشيطان يستخدمها، وبها يمكنه الدخول في المرأة… وهكذا) وكان الكهنة ينصحون أصحاب المنازل، إلى جانب رش المياه المقدسة، باقتناء القطط ووضع السموم القاتلة للفئران، لمساعدة القديسة العذراء بربارة، ولايزال المسيحيون يمارسون هذا الطقس في الموعد المحدد.
ليس غريباً أن تجتمع كل أديان العصور الوسطى ضد هؤلاء المتبقين من الدين القديم، فلاحقوهم في بريطانيا وأبادوهم عن بكرة أبيهم تقريباً، وفي أسبانيا أعدمت حرقاً على الخازوق ثلاثون ألف امرأة في سنة واحدة بتهمة السحر. ويكفي أن يرى الكاهن، أو أي مؤمن، فأرة تخرج من بيت هذه السيدة، أو تلك حتى تتهم بالمشاركة، أي مشاركة الجن والأبالسة والشياطين، الذين عن طريقهم توقع الأذى بالمؤمنين.
تقليد ديني قديم
هذه السياسة من المسيحيين ترمي إلى انتزاع السلاح الوحيد الباقي بيد معتنقي الدين القديم، وهو السحر (نظن أن ما سموه سحراً كان تمسك الناس بالدين الطبيعي وإقبالهم عليه) عن طريق تهمة لا يمكن للمدعي إثباتها ولا يمكن للمتهم دحضها وتفنيدها، مثل كل التهم الدينية الأخرى.
وبالعيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين في الشرق انتقلت هذه العادة إلى المسلمين، وصارت الفأرة من المخلوقات المحتقرة المنبوذة، فهي التي أرادت أن تثقب سفينة نوح (مع أن هذه السفينة حطت على جبل أرارات سالمة) وهي التي قرضت أساس سد مأرب وتسببت في تفرق الناس، وهي التي يمتطيها الشيطان لإغواء المرأة… وهكذا.
إن الإفتاء في هذه المسألة ممارسة لتقليد ديني قديم يعود إلى العصور الوسطى، التي ما زلنا فيها.
إننا نطالب بحرية الإفتاء فليس لدينا شيء نخشى عليه، فلا سد يحمينا ولا سفينة تنجينا ولا ستر يقينا، بل إن ما نفخر به بات سلاحاً بيد الخصوم يفنينا، تقليداً كان أم دينا… فنحن شعب ميت مرهون، وإن كان غير مدفون.
كاتب من سورية