صفحات ثقافية

المترجم الخائن

null


سعاد جروس

بالوسع دائما كتابة رواية رائعة, قد تكون عظيمة, من دون تنازلات أو مساومات. والإيمان بأن للكاتب كرامة, ينبغي ألا يستهين بها الكاتب نفسه. إنها السند الوحيد إزاء حياة بلا معنى ولا هدف. ومن الحقارة السكوت على عالم يبيح كل هذا الظلم لهذا السبب».

هذا ما خلص إليه البطل بعد خوضه أحداث رواية امتدت على مدى 486 صفحة للروائي السوري فواز حداد تحت عنوان «المترجم الخائن», الصادرة حديثا عن دار رياض نجيب الريس في بيروت.

تُعري الرواية الوسط الثقافي العربي عموماً, ولو كانت أحداثها تقع في دمشق, من خلال اجتزاء عينة صغيرة, تشمل بضعة نماذج تمثل التسلط الثقافي: الصحفي الناقد الاجتماعي, المتعدد المواهب, والمبشر بالأخلاق, وأول من يدوسها ويستعين بالسلطة ضد خصومه. المفكر اليساري السابق ولاحقاً ركيزة من ركائز مشروع ثقافي غربي لغسل الدماغ العربي. الناقد المحترف المنافح عن الأدب, المتقلب والمتنكر لما يدعو إليه. الروائي المهمش والمأزوم, الأديبة والإعلامية النجمة كأفضل تطبيق لمعارف وعلوم من أين تؤكل الكتف. الشاعرة المتعلقة بأذيال القضايا الخاسرة والمتسلقة للقضايا الرائجة لتحقيق الذات والحضور في النشاط العام. العراقي المنفي المتشرذم بين الفرح بسقوط الطاغية والضياع بعد دمار العراق. الفدائي الفلسطيني المطحون بين رحى الثورة حتى النصر ورحى اقتتال الفصائل. المراهقة المتمردة, والمرأة المضطهدة المنهكة؛ دون إهمال ما استجد على الثقافة من رجال أمن مثقفين لضرورات أمنية وما يلزم لانتزاع بيرق المعارضة من يد المثقفين.

من فصل إلى فصل, ومن نموذج إلى آخر, يعمل حداد على تشريح الواقع الثقافي, وتوصيف ما طرأ عليه من تحولات وصلت إلى حد الخراب؛ خراب تكرس واقعاً بديلاً يسعى أبطاله للتنافس على انتهاز فرصه واستخدامه لارتقاء سلم الشهرة التي تمثل بحد ذاتها سلطة تستحق الصراع المميت. ترصد الرواية انعكاس التحولات السياسية الكبرى على المجتمع الثقافي, الفاقد للبوصلة بعد تراجع المد اليساري, وسيادة القطب الواحد تحت ظلال ما يعرف بالنظام العالمي الجديد, وما تولد عنه من احتلال للعراق واستباحة المنطقة, التي واكبتها عمليات قولبة مجتمعية وتطبيق وصفات قضايا إنسانية وفكرية مستوردة تهدف إلى الدمج القسري بأخلاقيات السوق المفتوح.

لا تقتصر الرواية على جيل من المثقفين انقلبوا إلى الضفة المناقضة, لما كانوا ينادون به, بل تصل إلى الأجيال الجديدة النابتة من قلب التحولات خلال العقدين الأخيرين, فتعود إلى تاريخ كل نموذج وتسهب في تفصيل سيرته الذاتية من بداياته الطهرانية إلى نهاياته الانتهازية التي لا تفتقر إلى فتاوى ثقافية تتنكر بقناع شرعي يسوغها سبيلاً لا مناص من سلوكه بشطارة بكل ما تعنيه الكلمة من سفالة وانحطاط وبجميع الوسائل لاستثمار الأمر الواقع, وجني المنافع.

ولأننا في رواية, للخيال فيها نصيب كبير في التوغل عميقاً في قلب هذا المشهد الثقافي ونكء بؤر العفن, فلا عجب أن نعثر على روائي موهوب حكم عليه بالإعدام نقداً لمجرد أنه كتب رواية استرعت الاهتمام وبشر بمستقبل واعد, لكنه لم يسترض الوسط الثقافي, فمات كمداً في الظل تساوره الأوهام بأنه مراقب ومطارد من مافيا ثقافية لم يفلح في التعاقد معها. وسنتعاطف مع المترجم الخائن بطل الرواية على الرغم من حماقاته الأدبية, لأنه مهدد بملاقاة المصير ذاته على يد العصبة ذاتها وللأسباب ذاتها وهي عدم تقديم الطاعة وإظهار الولاء المطلق للمسيطرين على الساحة الثقافية والممسكين بزمام الرفع والخفض والخنق في الصحف الثقافية. فالمنطق الواقعي حسب الرواية: «لا بد لأي كاتب مهما بلغ من عبقرية من دفشة مافيوية» والدفشة المافيوية تعني الاندراج في حفلات الزار التي ترفع شأن من تشاء وتحط شأن من تشاء, وفي أحسن الأحوال تهمش أو تتجاهل أعمالاً أدبية, حتى لو كانت من أعظم الأعمال الإبداعية.

هل هذه حقائق, أم بدع من خيالات روائي؟ عموماً لم يوفر حداد حتى روايته مما سيصيبها على يد النقاد كأمر مسلم به, بعدما باتت الظواهر الاستهلاكية للأعمال الأكثر رواجاً أو مبيعاً جزءاً لا يتجزأ من الطموح في المشهد الثقافي الحالي, وأشبه بتيار جارف يحلم أعتى المثقفين بالالتحاق به لما يمثله من مغريات €مال وشهرة وترجمة إلى لغات أخرى قد تنعش الأمل في الوصول إلى العالمية€. كل ذلك بغض النظر عن علاقته بجوهر الثقافة كمبادئ وقيم, وضمير لا يغفل مسألة الإيمان بكرامة المثقف, الذي نوه إليها البطل في خاتمة الرواية, مع أن أي نموذج من نماذجها, حتى هو لم يمتلك الحد الضروري من الدفاع عنها, فتعاون مع المستشار ومدير التحرير, وكتب وترجم كما يريدون.

ما اعترى الكثير من المجالات, طاول الثقافة أيضاً وأصابها بمقتل. فلم تعد هي الحصن المنيع ولا المتراس الأخير, بل ساحة مفتوحة لأناس يمتهنون العمل الفكري والأدبي ولا يتورعون عن استخدامه لغايات منحطة. قسوة الواقع الذي يكشف عنه خيال ساخر, سوف يشعرنا بالخزي كقراء أمام مشهد فاسد مخرب في الداخل, وينتج دماراً في القيم يتم تعميمه عن عمد. هذا هو الواقع على الرغم من الخيال, ونحن جزء منه ومسؤولون عنه وعن الخواء المتحكم فيه, وإذا كان البعض ضحايا, فهذا لا يعفي من المسؤولية عن الخطايا المميتة المرتكبة, حين نذعن للخيانة سواء بداعي الخوف, أم لدواع أخرى تتوخى تحصيل لقمة العيش, أو البقاء على قيد الشهرة بشتى الوسائل.

«المترجم الخائن» رثاء بلغة الهجاء, وصفعة المفترض أن تؤدي غرضها للإفاقة من حالة إغماء ثقافية طالت حتى غدت «كوما». لسنا متفائلين, الحالة ميؤوس منها, والأمل في الخروج منها ضعيف جداً… هكذا تقول الرواية إلا إذا خانتنا أو خناها.

الكفاح العربي 15/3/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى