صفحات سورية

جيش العملاء الجديد

null


حسام عيتاني

بدل القراءة المتأنية لوثيقة قوى الرابع عشر من آذار، والعمل على تحليلها والنظر في ما يمكن أن يكون موضع اتفاق فيها، استسهلت المعارضة اللبنانية رفضها جملة واحدة، معيبة على الوثيقة وعلى واضعيها مواقف وآراء كان يجوز التفصيل في أسباب رفضها. تتشارك وثيقة مهرجان «البيال» في المصير الذي لاقته مع عدد لا يحصى من الوثائق والمبادرات واقتراحات الحلول، بعضها لم يكمل من العمر نصف ساعة قبل أن يأتي الرد من الطرف المقابل بإحالته الى ظلمة النسيان.

غير أن بعض ردود المعارضة حمل انتقادا لسلوك الجمهور المشارك في المهرجان، خصوصا للصفيق الذي قوبلت به القائمة بالأعمال الأميركية. التهمة الموجهة الى المصفقين للدبلوماسية الأميركية مستلة من قاموس تحفل مفرداته بعبارات العمالة والخيانة والجاسوسية وما شاكل، وما من جديد في ذلك.

لكن ما فات موجهي الاتهامات المذكورة ملاحظته قد يكون أهم مما لاحظوه. فالجمهور الحاضر في قاعة «البيال» الذي يعد بالآلاف، توزع على كل الطوائف اللبنانية وعلى فئات اجتماعية ومهنية متنوعة، بل انه جاء من خلفيات سياسية وايديولوجية متباينة. وان تكن القائمة بالأعمال الأميركية في لبنان موضع ترحيب من قبل قسم كبير من هؤلاء، ففي هذا ما يستحق التمعن في النظر والتفكير وليس المسارعة الى نشر بيانات تبدو معدة سلفا وتحوي ما بات مألوفا ومملا من عبارات التخوين والتشهير التي فقدت كل معنى لها في ظل الانقسام المتزايدة جذريته عمقا عندنا.

ولعل من العسير أن يتفق اثنان من المشاركين في المهرجان على مضمون الوثيقة التي تليت، أو على تقييم مسؤولي الأحزاب والتيارات المؤتلفة في مجموعة الرابع عشر من آذار. غير أن قلة الاتفاق هذه هي ما يميز اللبنانيين واجتماعهم السياسي، ويجعل من اللقاء الحاشد صورة أقرب تمثيلا الى الفسيفساء اللبنانية.

والاهم أن قسما من اللبنانيين يبدو في الطريق الى حسم خياراته الســياسية والثقافية وحتى الاجتماعية، بإعلان الانتماء الى الغرب، في المجالات المذكورة كلها، ومن دون أن يكون محصورا في طائفة لبنانية بعينها أو أن يلزمه ذلك بالتخلي عن صنف متنور من الاعتراف بهويته العربية. ولعل هنا مكمن التغيير العميـق الذي يعصى على مرددي خطب العروبة النضالية تلمّسه، ناهيك عن إدراك تبعاته الهائلة الاتساع على مستقبل لبنان.

ولقائل أن يقول ما شاء في هجاء السياسة الأميركية في لبنان والمنطقة والعالم. والأرجح أن ما سيقوله صحيح. على أن اقتراب الهجاء هذا من الصواب، لا ينفي أن مناخا متزايد الاتساع في لبنان يرى نفسه أقرب الى الولايات المتحدة منه الى العرب، خصوصا أولئك المرابطين في معسكر الممانعة. وليس من بين المرحبين بالقائمة بالأعمال الأميركية من يتسم بالسذاجة الى الحد الذي لا يعي فيه انعدام وجود أي سياسة أميركية خاصة لمعالجة الأزمة اللبنانية، وليس هناك من لا يعرف الاستعداد الأميركي الفطري للمقايضة بين ما يعتبره اللبنانيون مصالح وطنية لهم وبين ما تراه الولايات المتحدة ضرورات لها. وليس هناك من سها عن باله السوابق الأميركية في هذا المجال، سواء لناحية التخلي في ساعة الشدائد عن الحلفاء السابقين من أكراد العراق الى جنوب فيتنام، أو غيرها من التجارب التي خرج منها من يعتقد أنه صديق للولايات المتحدة بخيبة أمل ومرارة قاتلة.

هذا أمر، وما يعتقده جمهور «البيال» ـ وهو عينة عن جمهور أوسع بكثير ـ عن المخاطر التي يحملها المعسكر المقابل، على لبنان واستقراره ومستقبله أمر آخر تماما. يجسد تلك المخاطر، على سبيل المثال، الأسلوب المهين الذي تلقى فيه لبنان الدعوة لحضور القمة العربية، والتهديدات الدائمة بحروب لا تنتهي حتى تبدأ وتكون كلفتها دائما من أعمار اللبنانيين وحيواتهم، وما الى ذلك من أشكال الاستغلال الأداتي الذي لا يقيم وزنا ولا أهمية لحق أهل هذه البلاد، ببلد يشبه غيره، لا أكثر ولا أقل.

عليه، يكون بات من الملح تقديم إعادة تعريف للعمالة والخيانة وغيرها من مفردات التبخيس والتشكيك بالوطنية الفردية والجماعية. لقد أصبح مفهوم العمالة واسعا الى الحد الذي بات يشمل فيه قوى سياسية رئيسة وطوائف وهيئات ثقافية واجتماعية، ما يذكر بأدبيات الستينيات والسبعينيات، حيث كانت اتهامات من النوع هذا تشمل دولا وشعوبا عن بكرة أبيها، فيما يؤول النقاء والطهر الثوري الى حفنة قليلة العدد والأهمية تنسب الى نفسها الحقيقة والحق….

وتقتضي الدقة ملاحظة أن حضور مهرجان «البيال» يزيد في العدد عن عناصر جيش انطوان لحد. فهل بتنا، في منطق المعارضة وكتبة بياناتها، أمام جيش جديد للعملاء؟ وكيف السبيل الى العيش في بلد نصف مواطنيه من الخونة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى