اعترافات «خلية دمشق»: تحول في الموقع السوري من «الجهاد في العراق»
حازم الأمين
لولا ذلك الجهد المفتعل الذي تخلل اعترافات الموقوفين في سورية بتهمة تفجير السيدة زينب في دمشق، والمتمثل في السعي الى ربط التفجير بـ»تيار المستقبل»، لكنا قلنا ان ما سمعناه هو الرواية السورية الأولى التي تؤشر الى بداية تحول النظام في دمشق الى موقع مختلف في علاقته بالجماعات «الجهادية»، على غرار تحولات شهدتها علاقات دول أخرى بهذه، مثل باكستان واليمن.
الرواية المقدمة في الشريط الذي بثه التلفزيون السوري فيها الكثير من العناصر التي يجدر التوقف عندها، ومن الوقائع المتصلة بأحداث وأسماء ومناطق، والتي إذا ما قيست وقورنت بتواريخها لمسنا وجهة سورية مختلفة هذه المرة في مقاربتها. صحيح ان افتعال علاقة بين الخلية وبين «تيار المستقبل» في لبنان يبدو من قبيل الاستخدام الساذج لحكاية كانت متماسكة قبل تكشّف هذا الميل، لكن الصحيح أيضاً ان الحكاية جرت على هدي حقائق لا بد من التوقف عندها، هي نفسها، من ناحية أخرى، تتولى نفي الافتراض السوري بعلاقة مع «المستقبل».
ليس عرض الوقائع وتحديد نقاط تماسكها وافتراقها ما يهمنا هنا، فذلك ما تتولاه قراءتها فقط، إنما البحث في أسباب الإفصاح السوري عما تشي به الوقائع التي نقلها الشريط التلفزيوني. اذ من الواضح ان انخراط سورية في السنوات الخمس الفائتة في نقل المقاتلين الى العراق وتحولها منطقة «ترانزيت» لهم، وهو ما أثبتته مئات الوقائع والاعترافات، انقلب عليها. إنها المعادلة نفسها التي اختبرتها كل الدول التي أنشأت علاقات مع تلك المجموعات المتشددة، بدءاً بأنور السادات الذي باشر عهده بإحداث انفراجات في علاقة النظام بالإخوان المسلمين الى ان سقط صريع رصاص «إسلامي»، وصولاً الى الصومال التي تكابد اليوم مآسي عودة «القاعدة» اليها.
الشريط التلفزيوني السوري، وبعيداً من التوظيف الهامشي فيه، يكشف وقائع تؤكد سقوط سورية (نظاماً ومجتمعاً هذه المرة) في فخ «القاعدة». فتحول المدن السورية الى ملاجئ للعابرين الى العراق، ومطار دمشق الى المحطة الثابتة في رحلتهم الى هناك، واستيطان الوسطاء دمشق وحلب، صارت اموراً معلنة، وصار يمكن أي هائم على وجهه في العالم العربي والإسلامي الوصول الى عناوينهم وأرقام هواتفهم، كل هذا ما كان يمكنه إلا ان يفضي الى نتيجة واحدة وسؤال واحد: ما هو مصير هذه الشبكات بعد انتهاء وظيفتها؟ وهو السؤال نفسه الذي راود المراقبين في أعقاب انتهاء وظيفة الشبكات التي تولت مهمات مشابهة أثناء فترة «الجهاد الأفغاني»، وحاولت دول مثل اليمن الإجابة عنه عبر إيجاد وظيفة أخرى لهم في حرب اليمنين الشمالي والجنوبي عبر حشدهم لمقاتلة «النظام الشيوعي في الجنوب»، فكان أن تضاعف مأزقها. واليمن اليوم تعتبر من المناطق السهلة لعمل «القاعدة» على رغم سعي النظام فيها، وعلى نحو جدي، لاستئصالها.
صحيح ان سورية باشرت منذ وقت باستشعار ذلك الخطر، وهو ما أشّر اليه مقتل أبو القعقـــاع فـــي مدينــــة حلـــب منــــذ اكـثــــر مـــن سنة. لكن، فـــي مقابـــــل ذلك، فـــإن الجماعـــات المتشددة التي يمـكـــن اختصار اسمها بـ «تنظيم القاعدة»، صارت تمتلك خبرات كبيرة في مجال العلاقة مع الأنظمة، وهي تدرك انها فور استنفاد وظيفتها ستتحول الى هدف للأنظمة «الصديقة»، والأرجح انها طورت بناها التنظيمية بما يتلاءم مع احتمالات من هذا النوع.
يمكن رصد الحذر الذي تعاملت به هذه الجماعات مع النظام في سورية عبر الكثير من الوقائع والإشارات. ففي اعترافات سابقة لشبكة تفجير السيدة زينب في دمشق، بثها التلفزيون العراقي في حينه، يبدو واضحاً ان ثمة اصنافاً ممن استخدموا الأراضي السورية معبراً الى العراق. فمنهم من كان يلتحق عبر تنظيمات البعث العراقي كجماعة كتائب ثورة العشرين، ومنهم من كان وسيطه تنظيمات إسلامية لا ترتبط بـ «القاعدة» لكنها تقاتل الى جانبها، وشاكر العبسي كان جزءاً من شبكة من هذا النوع، والقناة الثالثة للعبور الى العراق كانت شبكات ما يسمى بـ «دولة العراق الإسلامية» وهي الاسم الرديف لـ «القاعدة»، علماً ان القنوات الثلاث هذه ربطتها، بحسب الاعترافات التي بثها التلفزيون العراقي، علاقات متفاوتة مع أجهزة رسمية سورية. فخلال مداهمة أحد مراكز «دولة العراق الإسلامية» عثر على قرص مدمج فيه بيانات تفصيلية عن نحو 600 مقاتل من «القاعدة» وطرق وصولهم الى العراق والوسطاء الذين تولوا هذه المهمة، يظهر ان جميعهم من دون استثناء وصلوا من طريق سورية، فيما تولى وسطاء سوريون إيصالهم الى الحدود، وإشارات كثيرة أخرى كلها تتقاطع عند ظاهرة واحدة وهي تحول دمشق الى عقدة علاقات الجماعات التي تقاتل في العراق.
من الواضح منذ اكثر من سنة ان ثمة اتجاهاً سورياً معاكساً بدأ يلوح. المسؤولون العراقيون يشيرون الى ذلك، ووقائع أخرى تؤكده، على رغم ان الغارة الأميركية الأخيرة على منطقة البوكمال جاءت من خارج سياق التحول السوري. لكن هذا التحول لن يتم من دون رد فعل من «القاعدة» ونسخها الكثيرة التي ولدتها التجربة العراقية. الأرجح ان وقائع من نوع تفجير طريق المطار والاشتباك الذي أعقبه بيومين في مخيم اليرموك من مؤشرات ردود الفعل هذه. لكن اللافت ايضاً، والذي يمكن رصده من الوقائع التي تكشفت عنها الاعترافات الأخيرة وغيرها، هو كثرة أسماء السوريين في هذه الشبكات، ما يعني ان توطن هذه التنظيمات في المدن والمناطق الحدودية أفضى أيضاً الى استقطابها ناشطين محليين. وهنا تلوح مجدداً مرارات أنظمة أخرى في علاقاتها بـ «القاعدة»، إذ أفضت تلك العلاقات القاتلة الى نتائج مشابهة. وبعد ان كانت هذه الأنظمة تعتقد أنها ما زالت تملك زمام المبادرة في علاقتها بهذه الجماعات، وأنها تحت مراقبتها، اكتشفت ان السحر انقلب عليها، وأن الوقت حان لإحداث الانقلاب ومباشرة الحرب.
الشريط التلفزيوني السوري يؤشر الى مرحلة مختلفة في تعاطي النظام في مسألة الجماعات المتشددة. والقول بأن الخطوة متأخرة صحيح، لكن الأسئلة في مكان آخر، فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة الى لبنان والى العراق؟ وكيف سينعكس ذلك في العلاقة مع الأميركيين في المستقبل القريب وفي ظل إدارة جديدة لا تحمل إرث عداوة ولدتها «الحرب على الإرهاب»؟ اما ربط التفجير بعلاقة مع «تيار المستقبل» في لبنان، فيبدو هامشي المعنى في سياق الاعترافات.
الحياة – 09/11/08