آن الأوان لطي صفحة العنف في الحياة السياسية السورية
برهان غليون
بعد محاكمة طويلة، أصدرت محكمة الجنايات الأولى في دمشق، في 29 تشرين الأول الجاري، حكمها بالسجن سنتين ونصف على قادة المعارضة السورية المؤتلفة في إعلان دمشق، كما حكمت بحجرهم وتجريدهم مدنيا. لم يفاجيء مثل هذا الحكم أحدا في سورية، وربما في المنطقة والعالم. فقد اعتاد الرأي العام على مثل هذه الأحكام التي تصدر جميعا بذريعة إضعاف الشعور القومي ونقل معلومات كاذبة توهن نفسية الأمة في زمن الحرب. ليس من السهل فهم حكمة محكمة الجنايات السورية ولا المنطق الذي تحاول من خلاله هذه المحكمة أن تثبت أن نشر البيان أو حضور اجتماع يضعف لا محالة الشعور القومي، خاصة وأن دمشق تقود منذ سنوات مفاوضات مباشرة وعلنية، يصفها العديد من المسؤولين بأنها جدية ومهمة، مع إسرائيل، كما أن المحكمة لم تقدم أي قرينة تثبت هذه التهم التي صيغت أصلا بصورة لا تحتاج فيها إلى قرائن ولا إثبات، في الوقت الذي يصعب على إنسان أن يصدق فيه أن الاعتقالات الدورية للناشطين السياسيين والمدنيين، محاكمتهم وإيداعهم السجون لفترات طويلة وتجريدهم من حقوقهم المدنية، والحجر عليهم، هي أفضل وسيلة لتعزيز الشعور القومي العربي وإحباط خطط القوى الأجنبية ؟
ما يحصل بعد ثمانية سنوات ثمانية على استلام الرئيس الجديد السلطة يطرح أسئلة عديدة حول مقدرة النظام على الخروج من منطق الحصار الذي لا يزال يعيش فيه منذ عقود طويلة ورغبته فعلا في تطبيع العلاقات مع الشعب الذي يتحكم به. ويكاد جمود النظام وعجزه عن القيام بمبادرة، مهما كانت بسيطة ومحدودة الآفاق، تجاه معارضة الداخل، بل تجاه الرأي العام السوري المكبل بأكمله، يتحول إلى مضرب المثل، ليس في المنطقة العربية فحسب وإنما في العالم أجمع. فما المانع لنظام يطرح نفسه كنظام قومي وشعبي، يسيطر من دون منافسة وبصورة مطلقة على كل مؤسسات الدولة والمجتمع معا، ويحتكر موارد العمل السياسي والمدني، من الاعتراف بمعارضة سياسية سلمية، والتحاور معها والقبول بحد أدنى من الحريات السياسية والمدنية؟ وما الذي يشعره بالخطر الوجودي من جراء نشر بيان أو حضور اجتماع، أو عقد ندوة أو إلقاء محاضرة، تخرج عن سيطرته المباشرة وسيطرة أجهزة الأمن، حتى يورط نفسه في مثل هذه المواقف المضحكة والمؤلمة معا؟ ولماذا لا يمكن للسوريين أن ينعموا بحياة سياسية طبيعية تتنافس فيها القوى الحية والنخب الاجتماعية بصورة عادية، كما هو الحال في معظم بلاد العالم، على خدمة البلاد، في نطاق الشرعية الدستورية والشفافية والالتزام والمسؤولية؟ وإلى متى يمكن لنظام ولد من رحم انقلاب عسكري، أن يستمر في تخوين أي رأي مخالف حتى يبرر لنفسه البقاء في الحكم من دون قيود ولا حدود، ويجعل من حال الاستثناء والأحكام العرفية دستورا وحيدا للحياة ؟
ومما يزيد من حدة هذا السؤال صدور حكم محكمة الجنايات السورية أيضا في هذا الوقت بالذات، أعني في فترة يبدو فيها النظام في أحسن حالاته وذروه قوته. فقد خرج منتصرا من المواجهة التي فرضتها عليه الولايات المتحدة، والعزلة التي أحاطته بها الدول الغربية والأمم المتحدة، بعد سنوات طويلة من المعاناة والشك والاضطراب. وقد أثمر هذا الانتصار تسجيل مكاسب فعلية في لبنان تجسدت في تأليف حكومة الوحدة الوطنية، وفي إطلاق المفاوضات السورية الاسرائيلية التي كانت شبه محرمه من قبل واشنطن، وفي استبعاد تهديدات وضغوطات المحكمة الدولية. وأسفر كل ذلك عن تكريس واضح لزعامة الرئيس الجديد الذي تعرض في بداية حكمه إلى الكثير من التشك بمقدرته على مواجهة تحديات المرحلة، بل باحتمال احتفاظه بالسلطة. وكان من المنتظر في هذه الظروف الذي استعاد فيها النظام ثقته بنفسه، واستقرت أوضاعه الداخلية والإقليمية، وأصبح محور اهتمام غربي متجدد، أن يزيد شعوره بالطمأنينة والأمن وأن يخفف من القيود القاسية المفروضة على الحياة السياسية والمدنية الخاضعة كليا لحاجات الأمن بأضيق معانيه البوليسية.
كان من المنطقي أن يستفيد الرئيس من هذه الفترة بالذات كي يطلق مبادرة داخلية، يمحو بها آثار السنوات الماضية، ويعيد التواصل مع الشعب والمجتمع، ويمهد الطريق نحو إصلاحات سياسية لا يزال الشعب السوري ينتظرها منذ عقود طويلة. وكان سيجني منها مكاسب سياسية وأمنية صافية. فليس من المعقول أن يفكر نظام سياسي بأن من الممكن ضمان الأمن والاستقرار إلى الأبد، اعتمادا على العنف وحده، وإقصاء الرأي الآخر وتخوينه وتجريمه. فالمجتمعات بحاجة أيضا للراحة والاستقرار حتى تتفرغ للعمل والإنتاج. والنظم يحاجة كي تحظى بمعنى سياسي إلى أن تتجاوز القوة المسلحة في تحقيق سيطرتها وتبني لنفسها أساسا من الشرعية والصدقية السياسية، أي أن تكسب حدا أدنى من القبول المجتمعي والاتساق القانوني.
هل يرجع السبب في الخوف من أي خطوة في اتجاه المجتمع إلى سطوة مراكز القوى وشبكات المصالح، المتركزة في أجهزة الدولة أو أوساط الحكم القريبة والمقربة، التي ترفض أي تغيير أو تعديل في قواعد العمل الجارية، حتى لا تفقد مقدرتها على التصرف داخل الدولة والبلاد، وتجاه مواردهما، على أنها مزرعة شخصية خاصة، وغنيمة تاريخية؟ أم يرجع إلى شعور أصحاب السلطة بأن نظامهم على درجة من الهشاشة السياسية، أي من الفراغ الايديولوجي وفقدان الشرعية، بحيث يخشى فيه من أن يتحول أي انفتاح، مهما كان محدودا، على المجتمع والرأي العام، إلى مناسبة لانكشاف النظام وإبراز نقائصه البنيوية؟ أم يرجع إلى كليهما معا؟
ربما كان هذا هو الوضع بالفعل. فليس من السهل على أصحاب المصالح المكرسة منذ أكثر من أربعين عاما أن يتخلوا عن امتيازاتهم الاستثنائية واحتكارهم المطلق للثروة والسلطة، بإرادتهم الحرة. أما الفراغ السياسي والعقائدي فيكاد يكون شاملا بالفعل. ففي ما عدا الرئيس الذي يحتل اليوم كل واجهة النظام، لا توجد هناك اليوم أي قوة، أو منظمة، أو هيئة رسمية أو شعبية، أو شخصية ذات صفة سياسية، تحظى باهتمام الرأي العام، أو تلهمه بفكرة أو باقتراح، أو تترك اثرا في مخيلته، لا داخل حزب البعث القائد، ولا بين صفوف الجبهة التقدمية التابعة، ولا عند الوزراء الموظفين، ولا بين النواب المعينين، ولا في وسط لإعلاميين الملتفين حول النظام. ولا يكاد احد يلتفت لأحد من هؤلاء أو يسمع صدى وجودهم.
لكن، إذا كان هذا الوضع هو مصدر الخوف فأمام الرئيس خيارات أخرى أفضل بكثير. فلا تعالج مخاطر تفاقم النقمة الشعبية بالتغطية على الفساد وإنزال العقوبات القاسية بكل من يجرؤ على التذكير به، وإنما بالتطبيق الأفضل للقانون وتطمين الناس على حقوقهم وأنفسهم. ولا يحارب الفراغ السياسي والعقائدي الناجم عن ترهل نخبة النظام وفساد معظمها بتفريغ المجتمع من أي فكرة أو إرادة حرة، وتحطيم قواه الذاتية، وتجريم فكرة المعارضة الديمقراطية نفسها، أي بالمزيد من الإقصاء وممارسة العنف، وإنما، بالعكس، بإحياء العملية السياسية، وتغيير أسلوب الحكم بحيث لا تكون العصا بديل المجاهدة السياسية اليومية لكسب الرأي العام والتفاعل معه. ولا شيء يساعد النظام على تجاوز الفراغ السياسي والايديولوجي الذي يتخبط فيه، أفضل من وجود معارضة سياسية شرعية، تطمئن جميع فئات السوريين على مصالحهم وحقوقهم، وتزيد ثقتهم بوطنهم وبالمستقبل، وتحث رجالات النظام الموتى إلى الاستيقاظ والتفكير والممارسة السياسية، بدل أن يبقوا كما هم الآن جثثا هامدة، مفروضة بقوة السلاح، لا يفيد منها المجتمع وإنما تشكل عالة عليه وكارثة على الدولة ومؤسساتها. وربما نجح النظام بذلك في تجديد بعض موارده السياسية، واستعادة بعض الشرعية والصدقية التين يفتقر إليهما بصورة مأساوية.
آن الأوان كي يدرك المسؤولون في دمشق أن العنف لا يمكن أن يشكل باستمرار بديلا عن المبادرة السياسية.